منذ عقد ونيف تقريبًا بدأ التوسع في التعليم الجامعي بإنشاء جامعات في جميع مناطق المملكة، تم التعارف عليها باسم الجامعات الناشئة، وكان التساؤل دائمًا إلى متى سيبقى هذا المسمى المرتبط بها، وهل تجاوزت هذه الجامعات واقعًا هذا المسمى أم مازالت؟ الحقيقة أن من ينظر لمعظم هذه الجامعات ويقارنها بمتطلبات المرحلة الحالية التي تتطلب الكثير من الكفاءة والفاعلية والإسهام الفاعل في التنمية من خلال جودة المنتج التعليمي أو البحثي مازالت تراوح مكانها، وما زالت تعيش تفاصيل البدايات في كثير من أمورها، فالجودة التعليمية لا تتعدى الحصول على اعتماد أكاديمي يستنفر الجهود وتجند له اللجان وفرق العمل سرعان ما ينتهي بالحصول على هذا الاعتماد الذي لا تجد له الانعكاس المباشر على البيئة التعليمية أو عضو هيئة التدريس أو الطالب، فضلا عن محاولات خجولة في البحث العلمي لا تتعدى النشر الشكلي في المجلات العلمية، وغياب لدورها في خدمة المجتمع المحلي الذي ينحصر على دورات تدريبية تحرص على الكم أكثر من الكيف. قد يكون من الصعب إلقاء اللوم على هذه الجامعات التي أنشئت لمقابلة الطلب الاجتماعي المتزايد على التعليم، ووجدت نفسها أمام تحديات كثيرة من أهمها أنها وجدت في محافظات تنقصها بعض الخدمات التنموية، مما ألقى بتبعات إضافية على هذه الجامعات حديثة التأسيس، مثل: غياب بعض المشاريع التنموية والإنتاجية والصحية في بعض المحافظات، وصعوبة التنقل إليها؛ بسبب بعد المسافة أو عدم وجود مطار، وغياب سوق العمل الذي يستوعب مخرجات هذه الجامعات. بالإضافة إلى تحديات داخلية حدت من تحقيقها مستوياتٍ أفضل في الجودة والنوعية تمثلت في إنشائها على كليات سابقة تتباين فيما بينها في بيئتها وبنيتها التنظيمية ولوائحها الأكاديمية، كما تتعدد الفروع لها في عدة محافظات أشبه ما تكون بجامعات مستقلة، وتعدد الكليات المتناظرة، واختلاف الخطط الأكاديمية بينها، ونقص التجهيزات التعليمية، وغياب الخدمات المساندة لبعض التخصصات من تجهيزات ومعامل ومستشفيات طبية. بالإضافة إلى المعاناة المستمرة من قلة الخبرات الإدارية والأكاديمية، يضاف لها مشكلات الهيئة التدريسية التي تعتبر محور العملية التعليمية، حيث تجد هذه الجامعات معاناة في استقطاب أعضاء هيئة التدريس المتميزين لهذه المدن في ظل هذه التحديات التي تواجهها؛ مما يضطر بعض الجامعات الناشئة إلى القبول بأعضاء هيئة تدريس كفاءتُهم أقل. وتزداد هذه المشكلات مع التوسع في القبول في بعض التخصصات النظرية، وتدني كفاءة بعض الطلاب العلمية بسبب قبول طلاب بمعدلات متدنية، ووجود فجوة بين هذه الجامعات وبعضاً من مؤسسات المجتمع المحلي؛ في ظل ضعف إدراك هذه المؤسسات لمفهوم الشراكة والمسؤولية الاجتماعية. وقد يضاف لها غياب البوصلة الإدارية والرؤية المستقبلية لتوجيه هذه الجامعات من البداية نتيجة غياب جهة عليا تختص بالإشراف عليها، وترسم التوجهات المستقبلية لها، وتذلل الصعوبات التي تواجهها، ولا تترك هذه الجامعات حديثة النشأة لتمارس استقلاليتها الاكاديمية أسوة بالجامعات الكبرى القائمة منذ عقود في ظل غياب بيئة أكاديمية مؤهلة، وتحديات داخلية وخارجية تكتنفها، حيث خضعت لفلسفة القيادات الإدارية التي كلفت لقيادتها، والتي تتباين في قدراتها وإمكانياتها، فضلا عن حاجتها إلى وقت طويل لفهم واقع هذه الجامعات كونها أتت من جامعات تختلف في بيئتها التنظيمية وممارساتها الأكاديمية، لتنصرف عن مهمتها الأساسية في الإشراف على رسم السياسات والتوجهات المستقبلية لتستغرق جل وقتها في تفاصيل العمل الروتيني التقليدي، وبيروقراطية رتيبة محاطة بمشاكل إدارية وأكاديمية لا تنتهي . قد يكون من الإنصاف عدم تعميم هذه النظرة لكل الجامعات الناشئة التي تختلف في تاريخ النشأة، وتتدرج في حجم التحديات التي تواجهها، وتختلف في مستوى الأداء، ولكن تبقى كثير من هذه الجامعات تواجه تحديات مشتركة تجعلها عاجزة عن الوفاء بمخرجات تعليمية تتوازى مع الآمال المعقودة عليها التي تتطلبها التحولات التنموية التي تشهدها المملكة في مجالات متعددة، لذلك باتت هذه الجامعات بحاجها إلى مراجعة شاملة لإستراتيجياتها وخططها، ومراجعة كفاءتها الداخلية والخارجية لها بغية الوصول إلى مستوى الجامعات السعودية الأخرى التي تتقدم بخطى ثابتة في معايير تصنيف الجامعات. وبما أننا نشهد جملة من البرامج الإستراتيجية التي أوجدتها رؤية 2030 وتسعى إلى توحيد السياسات وردم الفجوة وتحسين مستوى الأداء، ورفع الكفاءة في مختلف القطاعات الحكومية، فإن الجامعات الناشئة باتت بأمس الحاجة إلى إستراتيجية تنفيذية تتبناها وزارة التعليم تشرف على رعاية هذه الجامعات، والأخذ بها لتحقيق الهدف المنشود وتوظيف الإمكانيات المادية والبشرية المتوفرة فيها بشكل أمثل لتحقيق متطلبات التنمية، ومعالجة كثير من العقبات التي تواجهها، ومراجعة التخصصات العلمية التي تقدمها لكي تتوافق مع متطلبات سوق العمل الذي يقع في محيطها، ومعالجة هياكلها التنظيمية المترهلة، ورفع مستوى الأداء الإداري للقيادات الأكاديمية، والعناية بكفاءة أعضاء هيئة التدريس، وتوفير بيئة جاذبة لهم لتحقيق الاستقرار الأكاديمي، ونقل أفضل الممارسات التعليمية والإدارية لها، والتوظيف الأمثل للتعليم الالكتروني لسد الاحتياج التعليمي، والاستفادة من تطبيقات العمل عن بعد للربط الإداري بين فروع هذه الجامعات والتباعد الجغرافي بين فروعها. الأمل أن يكون لهذه الجامعات حضور فاعل في البناء والتنمية يوازي الدعم الذي يحظى به التعليم في المملكة، وبما تمتلكه هذه الجامعات من كفاءات علمية، ومرافق جامعية متكاملة، ويكون لها اسهامات مباشرة في اكتشاف الفرص التنموية في المدن التي تغطيها ودعم البرامج التي أطلقتها الرؤية، ومن ضمنها تنمية القدرات البشرية الذي يركز على تطوير التعليم لتلبية احتياجات سوق العمل في المستقبل من خلال تنمية مهارات العمل، وثقافة الابتكار وريادة الأعمال.