يسلط الإصدار الأخير للكاتب عبدالمحسن بن عبدالله الماضي، والذي حمل عنوان «الكاتب والكتابة» إضاءات عدة على جوانب دقيقة من فنون الكتابة وأجناسها المختلفة، إلا أنه لا يتحدث بقدر ما يُلمح ويشير، مختصرًا على القارئ المشي المضني، ما يجعل هذا الإصدار وجبة مغرية وتحفة لائقة بالقراءة. «الكاتب والكتابة» الصادر عن النادي الأدبي في الرياض، والذي تزامن صدوره مع فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2021، جاء تتمة لكتابه الأول «كتابة الكلام» الصادر أيضا عن النادي الأدبي بالرياض. وجاء الكتاب الجديد في 174 صفحة من القطع المتوسط، في خمسة فصول تتناول الكتابة بشكل عام وأبرز الأجناس الأدبية، واختتم بحديث حول أهم مشكلات الكاتب مع الرقابة وتأثيرها على الكاتب والكتابة بشكل عام. كتاب لطيف إنه كتاب لطيف، هذا هو الوصف الأنسب له، جاءت مقدمته لطيفةً مثله، وقد جمعت في سطورها بين أهم لاعبين في مساحة الخيالِ «الساحر والكاتب»، مشيرة عبر هذا إلى أهم أدوات الكاتب الناجح القادر على إدهاش قرائه وسحرهم بما يكتب. ويجيء هذا الكتاب مميزا في أسلوبه، بسيطا سلسا، دون إغراق في الشرح، دون تفسير وتعقيد، بجُملة قصيرة موجزة، غزيرة مثل لوحة فسيفساء ملونة، سهلا ممتنعا، ومتفقًا مع مزاج قارئ اليوم، وقارئ كل يوم، تشعر وكأنك تقفز بين سطوره كغزالٍ رشيق، لا تستثقل القراءة أو تكبلك الاستطرادات، تنتقل بين فقراته بخفةٍ دون أن تضيعَ أو تبتعد عن شاطئ المعنى الأول في عنوان الفصل الذي تقرأ فيه والذي لن يتجاوز ثلاثة صفحات فقط.. هل تتخيل؟! قارئ حصيف في هذا الكتاب أنت لا تشعر فقط بأنك في حضرة كاتبٍ محترف، بل إنك تدرك جيدا أنك في حضرة قارئ حصيفٍ مطلعٍ ومتمكن من مادته، يتجلى لك في سطور معدودةٍ كل ما تحتاج معرفته حول الكتابة، مفهومها، أغراضها، دوافعها وحالاتها، تعرف أنك أمام قارئ جمعَ فأوعى، ثم رتَّب موضوعاته وأفكاره في نمط هندسي ملفتٍ جدا وواضح منذ الصفحة الأولى. ومما أحببت في هذا الكتاب أنه يسلط الضوء على الرأي لا على قائله، ويستعرض الآراء لتباينها واختلافها وتعدديتها في الموضوع الواحد، مهتما بالفحوى مختصرا غثاء القول وحشو المعاني، حتى إنني أشعر أنه قد يفترضها أحيانا كي يعري جميع جوانب الفكرة، وهو حينئذ كاتب مفكّر متأمل يُفيد من رأيه دون أن يقول هذا رأيي بنرجسية المؤلفين. ومن ذلك ما جاء في ص36 «يقول كاتب إنه يحب الكتابة ويحب صناعة الجُمل وتنضيد الأفكار.. ويقول آخر: كنت دائمًا أستيقظ مبكرًا.. وكلما تقدمت بي السن زاد بكوري المكتبي.. ومنذ أن تفرغت للكتابة وأنا أضع رأسي كل ليلة على وسادتي مستعجلا الصباح حتى أذهب إلى مكتبي..»، كما يتضح هذا في ابتدائه دوما بقول: يقول كاتب، ويقول أحد الكتاب دون ذكر اسم أحد منهما. وقد يُفصح المؤلف عن أسماء بعض الكُتاب البارزين والمشهورين مع ذكر آرائهم المختلفة، وكأنه يضعها موضع التقدير مبينًا أنه منحاز إليها ومتفق مع مضامينها. فنون وأجناس يتمتع الكتاب كذلك بقدرة على إضاءة جوانب دقيقة من فنون الكتابة وأجناسها المختلفة، إلا أنه لا يتحدث بقدر ما يُلمح ويشير، مختصرا على القارئ المشي المضني، وهو ذكي فيما يُلمح إليه، ومن ذلك ما ذكره في معرض حديثه عن السيرة الذاتية عند العرب وما تختلف به عما هي عند الأوروبيين في وظيفتها، حيث إنها لدى الغرب حريصة على إعلان المستتر وتسجيل الاعترافات، بينما تسعى لدى العرب إلى دفن المضمر وتبريره في خضم الحديث عنه أو الاقتراب منه! . ورغم أن الكتاب يتحدث عن الكاتب والكتابة، إلا أن المؤلف لم ينس كاتب التاريخ إذ عدَّهُ من الكُتَّابِ الذين ينبغي التعريف بهم والتنويه إلى تصنيفاتهم ودورهم بين التوثيق والتزوير والتحوير والتذكير، والإشارةِ اليسيرة إلى أنماط كتابة التاريخ ومفسداتها، بشكل موجَز وعميق دون السقوط في الإسهاب والملل. تبسيط المفاهيم لعل من أجمل ملامح أسلوب المؤلف أنه يضع نُصب عينيه القارئ المهتم غير العارف، فيبسط المفاهيم ويقدمها بما يجعلها واضحة لكل من هو بعيد عن مراكبها.. وهي كذلك مفيدة للجميعِ ممن يهتمون ويعرفون كثيرا حول الكتابة والكاتب، لأنها أُغنيتهم التي يحبون سماع مَن يدندنها في عقولهم وأرواحهم، أغنية الكتابة التي تحرضهم على مزيد من الكتابة، وتحمسهم لمزيد من المعرفة. كما أعجبني جدا موضوع الفصل الأخير حول الرقابة وما فعلته عبر التاريخ بالكُتَّابِ والكِتاب، حيث إنها مشكلة ما زالت قائمة حتى اليوم، متصلةً بالكتابةِ بشكلٍ لا يمكن تخيله، فهي أهم معوقات الكتابة وأشدها وطأة على نفس الكاتب ووجدانه، ولها تأثيرها الشديد على الكتابة والنشر وحرية التعبير. *** * الكتاب : الكاتب والكتابة *المؤلف : عبدالمحسن بن عبدالله الماضي * الناشر: النادي الأدبي في الرياض * سنة الإصدار: 2021 * عدد الصفحات: 174 القطع المتوسط * عدد الفصول: 5