عكف، المفكر، إبراهيم البليهي، أكثر من ثلث قرن يشتغل على مشروعه الإصلاحي، الذي يأتي تحت عنوان رئيسي هو «تأسيس علم الجهل لتحرير العقل». صدر من هذا المشروع ثلاثة كتب هي، عبقرية الاهتمام التلقائي، و الريادة والاستجابة، و الإنسان كائن تلقائي، و الذي يتكون من جزءين تزيد صفحاتهما على ألف صفحة. كتبت سابقا أربعة مقالات عن كتاب «عبقرية الاهتمام التلقائي»، نُشرت جميعا بهذه الصحيفة. والآن سأعرض حلقات عن كتاب «الريادة و الاستجابة»، الذي في عوامل التَّغيير التي أدت إلى الانبعاث الأوروبي. سأكتب عن الكتاب ثماني مقالات. وهذا المقال الأول، و هو بعنوان، "التطبُّع الثقافي و دوافع مشروع: تأسيس علم الجهل لتحرير العقل". و المقال الثاني بعنوان، بضعة رواد عمليين غيَّروا العالم. و المقال الثالث بعنوان، أثر إختراع السلاح الناري. و المقال الرابع بعنوان، أثر اختراع المطبعة. و المقال الخامس بعنوان، مغامرة كولومبس. و المقال السادس بعنوان، حركة مارتن لوثر الإصلاحية. و المقال السابع بعنوان، أثر الثورة الصناعية.و المقال الثامن والأخير بعنوان، فاعلية العامل السياسي. يؤكد المؤلف على أن الإنسان كائن تلقائي و كائن ثقافي، فهو ومنذ صغره، يتطبَّع تلقائياً بالثقافة السائدة في بيئته. فمن الأنماط الثقافية تنشأ الأنماط الذهنية. فما العقل إلا محتواه، أي أنماطه الذهنية. إن العقل يكوِّنه و يحتله و يتحكم به الأسبق إليه. إن الأفراد في كل الأمم يولدون بقابليات فارغة، و مفتوحة، و مرنة, و مطواعة، و قابلة للتشكُّل. يتطبع الإنسان بالأنساق الثقافية و بكل ما تحويه من أوهام، مثل: وهم امتلاك الحقيقة المطلقة، ووهم الامتياز، و توهم المعرفة، فالإنسان ليس بما يولد به، و لكن بما ينضاف إليه. إن الإنسان على المستويات الفردية و الاجتماعية، و في الكثير من استجاباته، وردود فعله، لا يستجيب في المواقف المختلفة بتعقُّل آنيِّ، وإنما تنساب الاستجابة تلقائياً، مما تطبع به و اعتاد عليه، و يبقى محكوما بهذا التطبُّع الثقافي طيلة حياته. من وجهة نظر المفكر الكبير، فإن تمايز الأمم بالأنساق الثقافية و الأوهام المتضادة، هو المتسبب في الحروب المدمرة، و المذابح الفظيعة، و المآسي الإنسانية، و الإبادة الجماعية. إن عملية تفكيك الأنساق الثقافية عملية بالغة الصعوبة، وفي عصرنا الحاضر، أصبحت أكثر تعقيداً، و يعود هذا إلى أنه على المستوى العالمي، فإن النُّظُم السياسية والتعليمية و الاجتماعية و الاقتصادية قد كرَّست العقل الأداتي الوسائلي، و اهتمت بالإدراك الحسي، و أحالت الفكر والعلم والمعرفة إلى مجرد أدوات ووسائل عملية ومهنية من أجل التمكين و الهيمنة. إن طبيعة العقل نفسه هي الداعم لهذا التوجه، لأن العقل في أصل تكوينه هو أداة للبقاء. لقد تطورت البشرية في مجال العلوم، وفي المجالات العملية، وفي مجالات الوسائل و الأدوات، يقابل هذا التطور الهائل، فقد تخلفت البشرية في الجوانب الأخلاقية و الفكرية. كذلك، فإن الأنساق الثقافية التي تم التطبُّع بها تصبح العقبة أمام أي محاولات، تهدف لتغيير المجتمعات بصورة إيجابية. يعتقد المفكر الكبير أن استمرار التَّطبُّع الثقافي، بسيرورته الحتمية التلقائية في كل العالم، هو المعضلة البشرية الأولى والكبرى على المستوى الإنساني بأجمعه. فالأصل هيمنة التطبُّع النَّسَقي، بفاعلية طبيعة الإنسان التلقائية في مرحلة التكون، ثم بفاعلية قانون القصور الذاتي، استمرار وديمومة. لقد انشغل الفلاسفة و المفكرون و العلماء بمحاولة تلمُّس العوامل التي تتغيَّر بها الأمم لتنفك من قيود التطبُّع بالأسبق، فتمخض ذلك عن ظهور علوم معرفية ذات أهمية، مثل: فلسفة التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم الانثروبولوجيا. ومشروع المفكر، إبراهيم البليهي، تأسيس علم الجهل لتحرير العقل، يقع في صلب اهتمامه ضمن هذه الكوكبة من العلوم. وبعبارة أخرى، فإن هذا المشروع يتلمَّس أيضا العوامل التي تُبقي الأمم أسيرة للتطبُّع بالأسبق، بهدف أن يسهم ذلك في تحرير العقول من تلك المعيقات الجاهلة، فَتحرُّر العقول هو المقدمة لكل التطورات الإيجابية. إن التطور كما حدث في أوروبا هو ثمرة التكامل بين الأفكار الريادية الخارقة وبين الفعل السياسي. و لاقتناع المؤلف بأهمية هذا العامل، أي التكامل العضوي بين الريادة والاستجابة، فقد جعل عنوان كتابه هذا الذي بين يدي هو الريادة والاستجابة. وكما قلت سابقاً، فإن كتابه هذا يبحث في عوامل التَّغيير التي أدت إلي الانبعاث الأوروبي. إن الناس تقاوم تلقائياً الفكر الفلسفي التنويري، لأنه مغاير للأنماط الذهنية، فهناك الرفض التلقائي للمغاير، لكنهم يتأثرون بقادة السياسة و العمليين والمغامرين المستكشفين. فالفكر الفلسفي التنويري لا يؤتي ثماره، إلا إذا تبنته قوة سياسية، فتحيله إلى واقع يتم التبرمج به تلقائياً، و من ثم الانتظام في مساراته. إن الفكر الفلسفي و العلمي و الإبداع عموما ليس امتداداً تلقائياً لأية ثقافة، فهو دائما يمثل خروجاً على تيار التفكير السائد عند كل الأمم، فهو مختلف عن المألوف بنيوياً و مضاد له في اتجاهه. أما التعليم الجمعي الاضطراري فدوره ينحصر في تكريس التَّطبُّع، و ترسيخ الانتماء، و تأهيل الدارسين لخدمة المجتمع في المجالات الأمنية و الاقتصادية، وفي مختلف الأعمال المهنية. بينما العلم الحقيقي في جوهره هو تصحيح تصورات، و مهمته: تبديل الأنماط الذهنية، و تكوين رؤى صحيحة متحقق منها بواسطة البحث الدقيق والمراجعات الفاحصة، ويزيل العقبات الذهنية، ويقوِّض الحواجز النفسية، ويصحح الرؤى المؤسسة على الأوهام والتلقائية. إن المؤلف يحلم بإنسانية حقيقية، تتجاوز عقلية الصراع البدائية المشحونة بقيم وتصورات ما قبل العلم، إلى إنسانية العلم و السِّلم و التآخي، والعدل والمساواة والحرية والفهم والرشد وتبادل الاحترام، و إنقاذ البؤساء في الأرض من المعاناة المذلة، للحصول على لقمة العيش المغموسة بأقصى درجات المكابدة، وإنهاء التفاوت بين القلة التي تملك كل شئ والكثرة التي لا تملك أي شىء. و يحلم المؤلف بإنسانية تُعلي من شأن إنتاج الفكر الفلسفي التنويري، الذي هو مصدر كل علم حقيقي، يهدف إلى تفكيك الأنساق الثقافية المعيقة.