أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    ورشة عمل لتسريع إستراتيجية القطاع التعاوني    إن لم تكن معي    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نموذجٌ للانفصال التلقائي المبكر عن التيار السائد

كان الفيلسوف الروسي نقولا برديائيف من أبرز المثقفين ذوي الرؤية الإنسانية العالمية في النصف الأول من القرن العشرين لذلك حظي باهتمام الدارسين والنقاد والباحثين والمؤرخين لقد صدر له خمسة وعشرون كتابًا تناول فيها بعمق مختلف القضايا الفكرية والإنسانية وتمت ترجمة هذه الكتب أو بعضها لأكثر اللغات العالمية ومنها اللغة العربية فهو مفكر عالمي مقروءٌ في مختلف اللغات لقد انفرد بنفسه مبكرًا فقد نشأ واعيا بفرديته.. ساعيًا لاستقلاله.. نافرًا من أي توجيه أو تدخل في حياته فاعتاد على التفكير المستقل فسلمتْ قابلياته من أن تحتلها التصورات الجماعية الخاطئة أو الأفكار التلقائية المسبقة فبنى نفسه بنفسه منذ طفولته باهتمام قوي مستغرق...
إن الرواد المبدعين ينتجون المعرفة ويستولدون الأفكار التي قادت العالم إلى الازدهار كما أنهم يبدعون ويواصلون الإضافات المعرفية إلى الثقافات البشرية.. إنهم يقاومون الأوهام ويصححون الأخطاء ويزيلون الخلط ويكشفون أسباب عطالة العقل، أما الشهادات فهي لا تدل على أكثر من القدرة على التلقي ومحاولة حُسْن الاستخدام
كان برديائيف فرديَّ النزعة عقلانيَّ التفكير إنسانيَّ السلوك كُلِّيَّ الاهتمامات اعتَبَر فردية الإنسان قيمة محورية أساسية بوصفها الجوهر الذي تتأسس عليه الاتجاهات التقدمية وتُستمَد منه القيم الإنسانية إنه برؤيته الكلية لم تستغرقه الاهتمامات اليومية أو المشاكل الجزئية وإنما استغرقته القضايا الكبرى بتشابكاتها المعقدة ذات التأثيرات المتبادَلة وهذا هو شأن الرواد العالميين؛ إن الرائد الإنساني يكتشف الحماقات والتفاهات البشرية بشكل عام كما يدرك بشكل حاد حماقات النسق الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يحيط به ويتحكم بحياته فيحرقه التبرم وتتفجر في ذاته تلقائيًّا طاقةُ المقاومة...
إن الأصل في الإنسان أنه يتبرمج تلقائيًّا بالثقافة السائدة ويبقى مندمجاً في المجموع وذائبًا في التيار العام ومستغرقاً في الحياة اليومية فيظل مأخوذًا بالغفلة العامة السائدة فالناس عموماً هم نتاجُ مجتمعاتهم ثقافةً وعقلاً ووجدانًا وقيمًا ومنظومة اهتمامات وطريقة تفكير ومحرِّكات نشاط إنهم آلات ثقافية تتحرك تلقائيًّا بالبرمجة العميقة المستحْكمة لكن في حالات استثنائية نادرة جداً قد يتحرر أحد الأفراد تلقائيًّا من هذا الاستغراق العام وينفصل ذهنيًّا وعاطفيا عن المجموع فيسير ضد التيار العام العارم، إن الإنسان هو ابن بيئته وهو نتاجها إنه مصوغٌ تلقائيًّا بقوالبها الصلدة ومندمجٌ فيها ومغتبطٌ بهذه الصياغة وغارق بهذا الاندماج إنه مأخوذ بما تشربته قابلياته تلقائيًّا لكنه لا يعلم ذلك ولا يعلم أنه لا يعلم فهو يتوهم أنه هو صائغ ذاته وأن كل ما يفكر فيه هو من اختياره ومحض جهده إن هذا من أشد الأوهام انتشاراً وأقواها ضررًا على المستوى البشري بأجمعه إنها الغيبوبة الفردية والجماعية التي تصمد أمام أقوى الحقائق وتقاوم أعنف الهزات لكن وسط هذا الاندفاع التلقائي الغامر ينفلت أحدهم تلقائيًّا فيفيق من هذه الغيبوبة الجماعية كما هي حالة نقولا برديائيف...
أدخله أهله المدرسة الحربية ولكن فرديته النافرة رفضت الانصياع لتعليم يقضي بالطاعة العمياء ثم دخل الجامعة ولكن لنشاطه الفكري والسياسي فقد تم طرده منها فلم يكمل الدراسة الجامعية فلم تكن الجامعة بالنسبة إليه مرجعًا لتحصيل معرفة بل إن التحاقه بالجامعة لم يكن عن شعور بالحاجة إلى ما تقدمه من معلومات فقد جاءها سابقاً لما تعطيه ولكنها كانت بالنسبة إليه ملتقى زاخراً بالحيوية لصراع الأفكار وساحة جياشة من ساحات التنوير فانخرط بقوة في ذلك الصراع بوصفه متبوعًا وليس تابعًا ومؤثِّرًا وليس متأثرًا ومعلِّمًا وليس متعلمًا فقد كان رغم صغر سنه أحد قادة التنوير...
إنه بطبعه نافرٌ من التطويع.. مشمئز من التدجين .. رافضٌ أن يستسلم للواقع الذي يصرُّ على تذويب الفرد والاستخفاف بقيمته يقول عن مسيرته الفكرية: ((لم أعرف ولم أعترف بتاتًا بأية سلطة لقد قررت وأنا ما أزال طفلاً أن لا أخضع لأية أوامر أو أذعن لمن هو أعلى مني إن فكري لم يبلور نفسه إطلاقًا وفقًا لأي نموذج تقليدي محدَّد)) من هنا جاء نفوره من التمذهب والانتماء الطبقي ورفْضُه للتفكير المدرسي أو التحديد والتأطير الأكاديمي...
لقد علَّم نفسه بنفسه تعليمًا عميقًا ومتيناً ومتنوعًا ومتسعًا لقد تبرَّم من البيئة المدرسية ليس بحثاً عن الفراغ بل من أجل تكريس التفكير المستقل والبحث الجاد لاختراق الأعماق إنه لم يكن يضيق بمقاعد الدراسة ليتفرغ للتسكع ولكنه كما يقول عن نفسه بأنه قرأ كبار الفلاسفة وكبار المبدعين: كانط وشوبنهاور ونيتشة وتولستوي ودستويفسكي وتورجيف وأمثالهم من عمالقة الفكر والإبداع قبل أن يتجاوز الرابعة عشرة من عمره لقد أبحر مبكراً في أعماق الفلسفة والأدب والفن والتاريخ فكان بذلك سابقاً لأي تعليم لمن هو في مثل عمره بل كان سابقاً للكثيرين من الذي يحملون أرفع الشهادات الروتينية التي يتحقق الحصول عليها بالانتظام في متطلبات محدَّدة لكنها لا تدل على أي تميز وإنما هي متاحة لأصحاب القدرات العادية إذا التزموا بمتطلباتها الشكلية...
كان برديائيف مقتنعاً بان الشهادات الأكاديمية ليست ذات دلالة إبداعية وأنه ليس بحاجة إليها بل إنها شاهدٌ على التبعيَّة المضادة للإبداع لذلك أصابته الحيرة حين قررت جامعة كامبردج منحه الدكتوراه الفخرية لأنه لم يُرِدْ أن يتعامل مع هذه المبادرة الكريمة إلا بما يليق بتوقعات المبادرين الكرام فالنفس الكريمة لابد أن تقابل الكرم بالامتنان لكنه في ذات الوقت لم يكن يحس أن هذا التكريم يضيف إليه شيئاً بل بالعكس كان يرى أن هذا التكريم يوحي باحتياجه للاعتراف من مؤسسة رسمية نمطية ولكن لم يكن أمامه سوى قبول الشهادة غير أنه في داخله كان ممتعضًا لأنه يرى نفسه أكبر منها...
وفي الحفل الذي أقامته جامعة كامبردج لمنحه الدكتوراه الفخرية خاطب مديرُ الجامعة الحاضرين بقوله: ((.. هذا سقراط الثاني... فما أكرم هذا الفيلسوف ضيفًا أدعوكم إلى تكريمه كفيلسوف للحرية)) ثم دعاه لاستلام الدكتوراه الفخرية معلنًا أنه: (( يُشَرِّف جامعة كامبردج بمزيد من الاعزاز والتقدير أن تمنح الدكتواره الفخرية للمفكر الحر نيقولا برديائيف الذي سجَّل في تاريخ الفكر أعظم الآيات)) ورغم كل هذا الإطراء من جامعة عريقة وذات اعتبار تاريخي وعالمي فإنه لم يكن ممتنًّا لهذا التكريم لأنه يرى أن إنجازاته الفلسفية والأدبية ومكانته العالمية في مجال الفكر أعظم من أن تكون محتاجة لمثل هذه الشهادة وقد أشار لذلك بمرارة في مذكراته وهنا نتذكر عملاق الفكر العربي عباس محمود العقاد الذي رفَضَ قبول الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة لأن قبوله لها كان يعني في نظره أنه بحاجة إلى تزكية رسمية وهذا يتنافى مع مكانته الريادية والإبداعية وهو محقٌّ تمامًا في موقفه فلا مجال للمقارنة بينه وبين أي من الآلاف الذين يحملون هذا اللقب الخادع الذي كثيرًا مايكون ستارًا للفراغ والخواء فيُسهم في توسيع مساحة الانتفاش الفارغ...
إن الرواد المبدعين ينتجون المعرفة ويستولدون الأفكار التي قادت العالم إلى الازدهار كما أنهم يبدعون ويواصلون الإضافات المعرفية إلى الثقافات البشرية.. إنهم يقاومون الأوهام ويصححون الأخطاء ويزيلون الخلط ويكشفون أسباب عطالة العقل، أما الشهادات فهي لا تدل على أكثر من القدرة على التلقي ومحاولة حُسْن الاستخدام فحامل الشهادة مهما علَتْ يشبه جهة التسويق أو مأمور المبيعات إنه يحاول من خلال أي موقع يشغله أن يُسَوِّق ماتلقاه ليس أكثر.. إن مهمته أدنى بكثير من منتجي المعرفة ومقدمي الأفكار التي قادت العالم إلى الازدهار ويأتي في طليعة منتجي الأفكار المفكرون والفلاسفة ومنهم نقولا برديائيف...
نشأ برديائيف في أسرة ارستقراطية ذات نفوذ كبير تتيح لأبنائها الزهو بالذات والاستعلاء على الآخرين لكنه اشمأز من هذا النفج وصمَّم على أن يقاوم مثل هذه التقاليد التعسفية فالمكانة لا تورث وإنما تُشَيَّد يقول في كتابه (الحلم والواقع): ((ولدت من طبقة الأعيان ثم انفصلت عنها وهذه القطيعة مع المجتمع الذي أنتمي إليه والقطيعة الأخرى التي أعقبتها مع شركائي في الثورة تؤلفان الحادثتين الأساسيتين في تاريخ حياتي الباطني والظاهري على السواء وهما جزءٌ من صراعي للحصول على حق الفكر الحر وحق الإبداع)) إن برديائيف وُلد بقابليات عظيمة وأتيح له أن يطلع مبكراًً على الفكر الحر فتشكلت قابلياته بهذا الفكر الاستثنائي الرفيع فنشأ غريباً عن الوسط الذي يعيش فيه فأحسَّ بغربة شديدة وراح يوغل في هذه الغربة وبات غير قادر على التكيف مع التفاهة التلقائية والابتذال السائد فعاش بعقله الفريد وحيدًا وسط الضجيج...
لقد نذر نفسه للعمل الإنساني الخلاق ومحاربة كل أنواع التعصب وكل أشكال التمييز وكل أنماط الادعاء الكاذب والنفج السخيف لكنه كان يدرك صعوبة المهمة فهو يعرف أنه يعيش:((في عالم يصطدم فيه العقل المبدع بالجمود والبلادة والغباء فالمفكر أو الإنسان المثقف هو نشازٌ بين الجموع البليدة)) لذلك هيمن طوفان التخلف رغم توفر مقومات الازدهار فلم يزدهر سوى المجتمعات التي أدركت امتياز الريادة وأقرَّت بتفرُّد مفكريها واستجابت لروادها...
لقد أدرك برديائيف أن المعضلة البشرية الكبرى هي الاندماج التلقائي في التيار العام لأن هذا الذوبان في المجموع يسلب الفرد إنسانيته ويبقيه إمَّعة فيظل مأخوذًا باندفاع التيار العام من غير أن يَعْلم حقيقة وضعه إن إدراك برديائيف لهذا الواقع البشري قد جعله يؤكد بأن: ((العزلة والاتصال الروحي أساسيان للحياة... لم أشعر إطلاقًا بأنني جزءٌ من العالم الموضوعي أو أنني أحتل فيه مكاناً محدَّداً أو مركزًا معيناً... كنت منذ طفولتي أسكن عالماً يختلف عن العالم الذي يحيط بي كما كنت أتخذ موقف الدفاع ضد العالم وأحاذر من كل ماينتهك حريتي)) لذلك فإنه لم يكن يحس بذاته إلا إذا خلا بها فوجوده وسط الجموع كان يضايقه ويخنق روحه الفريدة فيقول: ((إنني أشعر بالوحدة في أشد حالاتها عندما أكون بصحبة الآخرين.. والشعور بالوحدة بين الناس هي الوحدة حين تشتد حدَّتها)).
إن من يفكر بعمق مثل برديائيف لابد أن يهوله طوفان السذاجة العامة فقد يبدو الشخص ذكيًّا في أموره اليومية لكنه شديد الغفلة في القضايا الكبرى لذلك لم يستطع برديائيف أن يتكيف مع هذا الواقع الإنساني المأخوذ عن ذاته فيقول: (( عندما استيقَظَ وعيي أدركتُ أن ثمة صدامًا بيني وبين الأشياء والعادات المألوفة والوجود اليومي.. وكل طريقة مستقرة للحياة بين الناس كانت تبعث النفور إلى نفسي والحنين للانفصال عن عالم الوجود اليومي)) إن طوفان الحياة اليومية هو طوفان البلادة والغفلة وإهمال التفكير الجاد والاندفاع مع التيار وتبادل الجور...
لذلك كان معارضاً في العهد القيصري ولما قامت الثورة البلشفية بقي متمسكاً بحريته فهو يرفض الاستبداد لكنه بنفس المقدار يرفض الإرهاب الثوري ففي العهد القيصري تم طرده من الجامعة كطالب كما تم سجنه وإبعاده إلى منطقة العزل في سيبيريا ولكنه أثبت ذاتيًّا مكانته الفلسفية فتم تعيينه استاذًا للفلسفة بجامعة موسكو غير أن لينين لم يُطق نقده ففصله من أستاذية الجامعة ونفاه خارج الاتحاد السوفييتي فعاش في ألمانيا ثم في فرنسا حتى مات وقد كتب عن وضعه النافر في العهدين يقول:((كنت متمردًا بيد أن تمردي لم يكن مما يسمح إطلاقًا بالإرهاب الثوري.. تمردت على العالم وعلى نظامه المذل ولكن الإرهاب الثوري ارتدادٌ وخضوعٌ لمعايير العالم ومطالبه...)) ويقول ((الروح هي الحرية.. والحرية هي الروح.. ومسألة التمرد مرتبطة ارتباطاً وثيقًا بمسألة الحرية.. التمرد ينطوي على ميل شديد للحرية)).
إنه فيلسوف الحرية بامتياز يقول عن نفسه: ((عكفت طيلة حياتي على صياغة فلسفة من الحرية)) ويقول: ((لقد تزوجت الحرية منذ طفولتي المبكرة.. تحركني روح الاستقلال في كل تفكيري وأفعالي كانت أضأل مظاهر العبودية تثير في نفسي عاصفة من الاحتجاج والعداء)) ويقول: ((أعشق الحرية فوق كل شيء آخر.. ومنشأ الإنسان من الحرية ومرجعه إليها.. الحرية هي المصدر الأوَّلي للوجود وهي شرطه ولقد وضعتُ الحرية بدلاً من الوجود في أساس فلسفتي)) كان لا يجد السعادة إلا في الحرية والبحث الحر عن الحقيقة فيقول بأنه لم يتمكن من حب الحياة لذاتها ولا أن يفهم هذا التعلق المجَّاني بها ثم يؤكد: ((فأنا لايمكن أن أحب غير القدرة على الإبداع وغير نشوة الفعل الخلاَّق))
وصفه المفكر العربي عباس محمود العقاد بأنه: ((إمام الوجودية الروسية)) لكنها الوجودية المؤمنة التي لا ترى للحياة من معنى إلا بإيمان الإنسان بالخالق والالتجاء إليه فرديًّا دون واسطة فالحياة لا تكتسب أهميتها إلا بهذا الإيمان العميق الذي يتوصل إليه الفرد بنفسه وليس تبرمُجًا تلقائيًّا إن وجودية برديائيف كما يقول العقاد: ((لا تلتقي مع الوجودية الفرنسية إلا في الإيمان بتقديس حق الفرد في مسائل الضمير ثم تنفصل المدرستان (الروسية والفرنسية) بعد ذلك على طرفي نقيض)). ثم يقول العقاد: ((لقد كان برديائيف خير مثال للمفكر الذي عرف محنة الحرية الإنسانية فأنكر استبداد القياصرة كما أنكر استبداد الشيوعيين وثار على سلطان الكنيسة كما ثار على سلطان كارل ماركس وغاص حتى القرار العميق في كل مذهب من المذاهب التي ألجأه إليها نفوره من الطغيان وشغفه بحرية الضمير فكان داعيةً من دعاة الثورة ثم قسيساً مُعْرضاً عن الدنيا منذوراً للآخرة ثم خرج من التجربتين معاً إلى الإيمان بالصلة بين الإنسان وخالق الكون عن طريق الضمير الفرد الذي لا سلطان عليه لأحد من الناس)) ورغم اختلافه عن الوجوديين الفرنسيين فقد كان تأثيره عليهم ملحوظاً ومنهم مارسيل وسارتر وكامو وكما كتب عنه روجيه جارودي: ((برديائيف.. أهميته في ميلاد الوجودية وتطورها في فرنسا أكيدة لاريب فيها)) لقد أثَّر بالفلاسفة الوجوديين الفرنسيين لكنه لم يتأثَّر بهم...
لم يكن برديائيف شخصاً يمكن تجاهله فاهتم به المؤيدون له والمعارضون لفلسفته ومواقفه وقد كتب عنه الكسندر لايزين وهو من خصومه وناقديه: ((كتب برديائيف أكثر من خمسة وعشرين كتاباً ومئات المقالات وهي بمثابة تركيب حقيقي لفكره.. أعماله تُرجمتْ إلى خمس عشرة لغة بما فيها اليابانية)) وعن طريق هذه الترجمات امتدت فلسفته إلى كل المجتمعات فامتد بذلك تأثيره...
كما كتب عنه خصمٌ آخر هو الفيلسوف الماركسي المعروف جورج بليخانوف: ((يعبِّر برديائيف في كتابه المعروف (الذاتية والفردية) عن فكرة الإصلاح المتدرج للمجتمع الرأسمالي قائلاً: إن التصحيحات التي يأتي بها تطور الرأسمالية بالذات سترفأ جميع ثغرات المجتمع القائم إلى أن يتجدد نسيجه الاجتماعي تجدُّداً كاملاً)) وهو يورد عنه ذلك معترضًا عليه كما هي عادة الماركسيين لأي فكر يتعارض مع الماركسية...
أما ليف شستوف فيرى أن: ((برديائيف هو أول مفكر روسي استطاع أن يجعل صوته مسموعاً ليس في وطنه فحسب بل في الخارج أيضا)) إنه مفكر عالمي وليس مفكرًا محليًّا...
وكتب عنه م .م . دافي ((برديائيف واحد من الرجال النادرين حرٌّ ومبدعٌ في آن معاً ومبدع لأنه حُرٌّ مفكِّرٌ يطفو فوق ماهو يومي وعادي ويكافح بعنف ضد الإسفاف والتشيؤ إنه وديعٌ وعنيف في آن معاً فيلسوف يريد تغيير العالم بقوة الفكر)) إن عظمة قابلياته قد التقطتْ مبكرًا خيط الفكر الجاد فجعلته منذ البداية مفكرًا حُرًّا نافرًا من أي تدجين...
تتكرر المقارنة بين برديائيف وثلاثة فلاسفة آخرين وهم الفيلسوف الفرنسي جاك ماريتان والفيلسوف النمساوي مارتن بوبر والفيلسوف الألماني بول تيليش وقد لخَّص أوجه التشابه بينهم الدكتور علي عبدالمعطي محمد في كتابه (تيارات فلسفية معاصرة) فكلهم فلاسفة وجوديون مؤمنون.. إنهم مؤمنون بالله كما أنهم يركزون اهتمامهم على الإنسان الفرد لئلا يبقى امتثاليًّا مسلوب الفردية فإنسانية الفرد لا تتحقق إلا بمقدار وعيه لفرديته وتحرره من الأنساق التي تذيب الإنسان الفرد وتستبقيه نقطةً في بحر النسق الذي يحجب عن الفرد مقوماته الفردية وخصائصه الذاتية...
إن استعراضًا سريعًا لعناوين كتبه يكفي لتأكيد عمق تفكيره وتنوع اهتماماته واتساع مجالات نشاطه وعظمة إنجازاته وفرادة جهده وسيبقى واحدًا من العظماء الذين يعاد التذكير بهم ولَفْت النظر إلى إسهاماتهم...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.