«هيئة الطرق»: مطبات السرعة على الطرق الرئيسية محظورة    هل اقتربت المواجهة بين روسيا و«الناتو»؟    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أرصدة مشبوهة !    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التعلُّم تلقائياً أو ابتهاجاً والتعلُّم قسراً أو اضطراراً
نشر في الرياض يوم 09 - 03 - 2008

إن الناس في الغالب يجهلون التأثير الحاسم للاهتمام التلقائي الناتج عن الحب والتعاطف أما المبدعون فهم يعرفون من تجاربهم ومن تجارب غيرهم ومن فهمهم للطبيعة البشرية أن تحصيل المعرفة مرهون بحبها
؟ التعلُّم التلقائي هو الأصل في نقل كل مولود من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة فبه تتحدد اللغة وتتشكل العقول وتنغرس القيم وتنتظم الاهتمامات وتتمايز الانتماءات فمنذ وجود الإنسان على هذه الأرض حتى عهد قريب والبشرية تتلقى المعرفة تلقائياً مشافهة ومحاكاة وتعتمد على التعلم التلقائي فتعميم التعليم بأنواعه ومستوياته هو طفرة نوعية حديثة في الحياة الإنسانية فهو شيء طارئ لم تعرفه الحضارات القديمة ومازال التعلم التلقائي هو الذي يصوغ العقول وينمّط التفكير ويحدّد الاهتمامات ويمايز بين المجتمعات ولم يحصل التكامل والتزاوج بين الثقافة والعلم الحديث إلا في المجتمعات التي تأسست ثقافتها على الفكر الفلسفي أما بقية المجتمعات فمازالت الحواجز الثقافية تحول دون تمثّل الروح العلمية فمن المعروف تماماً أنه رغم تماثل المواد العلمية تقريباً في المدارس والجامعات في كل دول العالم ورغم طول المدة التي يقضيها الطلاب في التعليم النظامي فإنه لم يستطع التقريب بين المجتمعات المختلفة ومازال التعلم التلقائي هو الفاصل والحاسم في تلوّن الحياة البشرية وفي تنوّع الثقافات وتمايز المجتمعات واختلاف الرؤى وتنافر الأمم وتفاوت الأوضاع..
إن التلقائية في التعلم هو ما يمتصه الإنسان من البيئة امتصاصاً عفوياً دون قصد فكل إنسان هو مثقف بثقافة المجتمع الذي ينشأ فيه سواء كان أمياً أم كان متعلماً وهذا التثقف التلقائي هو الذي يشكل الإنسان ويصوغه ويقولبه عقلاً ووجداناً وسلوكاً وأخلاقاً إن هذا التعلم التلقائي هو الذي يؤسس لأي تعلم يأتي بعده فينضاف إليه ويندمج فيه ما كان من جنسه وامتداداً له أما ما يتعارض معه فإن البنية الذهنية المتشكلة مسبقاً ترفضه وفي أحسن الأحوال يبقى سطحياً فلا يكون من العتاد التلقائي..
أما التعلم ابتهاجاً فهو التعلم المقصود والمنظّم الذي يتجه إليه الإنسان عن رغبة ذاتية فهو غير مدفوع بعوامل من خارجه فالتعلم ابتهاجاً يندمج مع ما جرى تعلّمه تلقائياً أما التعلم قسراً فهو التعلم الذي يأتي امتثالاً للأهل أو للنظام وليس عن رغبة ذاتية وهذا لا يستقر في الذهن ولا يمتزج في الوجدان ولا يؤثر في السلوك وينسلخ من الذاكرة فور أداء الامتحان أما التعلم اضطراراً فهو ما يفعله الكبار الذين لم يرغمهم غيرهم على التعلم كما أنهم لا يتجهون إلى التعلم بدافع الرغبة الذاتية في المعرفة وإنما هم مضطرون للحصول على شهادة أو لقب أكاديمي أو مدخل للوظيفة ومصدر للعيش..
إن تلقائية الإنسان هي شرط فاعليته القصوى في التعلم والأداء والسلوك لذلك تتقلّص قدرته في العلم والعمل والتعامل بمقدار ارتباك تلقائيته إن هذه الحقيقة الأساسية في الطبيعة البشرية ذات أهمية قصوى وتترتب عليها نتائج عظيمة وهي حقيقة تؤكدها ظواهر إنسانية كثيرة ومنها سهولة التعلم التلقائي في الطفولة مقابل صعوبة التعلم القسري أو التعلم المحروم من الدافع الذاتي والأهم من ذلك أن ما يتعلمه برغبة وعشق واندفاع يخالط عقله ويمتزج بوجدانه أما ما يتعلمه قسراً فيبقى خارج بنيته الذهنية وبعيداً عن تحريك وجدانه أو توجيه سلوكه..
إن تلقائية التعلم في الطفولة ينبغي أن ترشدنا إلى معرفة كيفية التعلم في الكبر إن الطفل ما يكاد يتحسس ما حوله وهو في سنته الأولى حتى يغمره الابتهاج والدهشة ويبدأ عفوياً رحلة التعرف على الأشياء والأحياء ويأخذ عقله بامتصاص ما تسعفه به الحواس فإذا بلغ الرابعة من العمر يكون قد استوعب تلقائياً وببهجة لغة أهله ولهجتهم ويمتص معهما تلقائيا طريقة التفكير وعادات السلوك وسلسلة الاهتمامات ومنظومة القيم دون أن يبذل أهله أي جهد لتعليمه وهو لا يكتفي بإتقان اللغة فقط وإنما يتقن اللهجة وطريقة النطق بمنتهى الدقة من غير جهد مقصود لا منه ولا من أهله فهو محكوم بالتلقائية وليس بالقصدية ويبقى مرتهناً كل عمره باللهجة التي شكلت لسانه فإذا كبر وانتقل إلى بلدان تختلف في لهجتها عن لهجته لم يستطع أن يتخلّص من لهجته التي اكتسبها في الطفولة وهذا من أوضح الأدلة على أن الإنسان كائن تلقائي فيما يمتصه عفوياً يتطبّع به ويمتزج في كيانه فلا ينساه بل لا يستطيع أن يتخلّص منه حتى لو أراد التخلص إلا بصعوبة شديد فاللبناني مثلاً بلهجته المميزة تعرفه من أول كلمة ينطقها حتى لو عاش بعيداً عن لبنان عشرات السنين ولا يمكن أن يكون هذا الرسوخ إلا لما يحصل تعلّمه تلقائيا فيما يتعلمه الإنسان امتصاصاً تلقائياً يمتزج في تكوينه ويذوب في نفسه ويخالط لحمه ودمه أما الذي يتعلمه في المدارس والجامعات فيظل طلاء خارجيا ينقشع بسرعة بالنسيان بمنتهى السهولة والتلقائية لأنه لم يكن نتاج الاهتمام الذاتي التلقائي ومن هنا يأتي ضعف أثر التعليم النظامي وقوة تأثير التطبع التلقائي..
إن عقل الطفل يمتص بشوق ولهفة من المحيط كل المؤثرات امتصاصاً تلقائياً مثلما يمتص الاسفنج الماء لأن تلقائيته المدفوعة بالرغبة في التعلم تعمل بكامل طاقتها ولكن ما أن يراد تعليمه قصداً حتى ترتبك قابلياته وتتصلّب ذاكرته وتختفي الدهشة عن عقله وتنعدم الرغبة في وجدانه ويصبح شخصاً آخر لأنه ملزم بأن يهتم بما ليس من اهتماماته التلقائية أما السبب في هذا الفرق الهائل في السهولة والصعوبة فيعود إلى أن الإنسان كائن تلقائي فقابلياته لا تستعد للتلقي والاستجابة إلا إذا كان التهيؤ تلقائيا فإذا أُربكت تلقائيته فلابد أن ترتبك كل قابلياته فعقله يكون في غاية التفتح إذا كان يستقبل المؤثرات تلقائياً بابتهاج ودهشة أما حين يُصرف عن تلقائياته إلى ما يريده الآخرون منه فإن نفسه تنفر ووجدانه يجمد وعقله ينغلق لأن العقل لا يمكن اغتصابه ولا إرغامه وإنما يمكن غرس الشغف فيه بما يثير قابلياته ويدغدغ ميوله ليكون مندفعاً بذاته نحو التعلم أما بدون هذا الشغف الذاتي فإنه يستحيل التعلم الحقيقي الذي يخالط اللحم والدم ويذوب في النفس ويمتزج في العواطف ويضيء العقل..
إن الناس في الغالب يجهلون التأثير الحاسم للاهتمام التلقائي الناتج عن الحب والتعاطف أما المبدعون فهم يعرفون من تجاربهم ومن تجارب غيرهم ومن فهمهم للطبيعة البشرية أن تحصيل المعرفة مرهون بحبها أما الذي لا يجد نفسه مدفوعاً تلقائياً وبقوة إلى التعلم فإن عقله سيبقى موصداً أمام المعرفة المستهدفة فالفيلسوف الألماني الشاعر (جوته) لا يكتفي بأن يجعل حب المعرفة شرطاً لتحصيلها وإنما يجعل مقدار ما يحققه الإنسان من المعرفة عمقاً واتساعاً: مرتبطاً بمقدار الحب لها والانفعال بها وفي ذلك يقول: "لا يأخذ المرء في معرفة شيء إلا إذا كان يحبه والمعرفة ستكون من الإحاطة والعمق بقدر ما يكون الحب بل والانفعال نفسه أعظم قوة وأحفل حياة" ومترجم هذا النص الدكتور عبدالرحمن بدوي يؤكد في كتابه (الموت والعبقرية) بأن جوته طالما أكد هذا المعنى: "وعبّر عنه في صور متعددة في مختلف مؤلفاته حتى صارت هذه الصيغة أكمل تعبير عن توكيد الصلة بين المعرفة والحب على أساس أن الأولى تنبع من الثاني" وهكذا نجد عبقرياً فذاً بمستوى جوته يؤكد أن التلقائية و حدها هي سبيل التعلم الحقيقي المؤثر لأن الفرد ينجذب إليه بدافع الحب وليس بدافع الاضطرار وأنه بمقدار الاندفاع التلقائي يكون تحصيل المعرفة أما إذا غابت التلقائية أو فترت أو ارتبكت فإن أسباب التعلم تغيب أو تفتر أو ترتبك ويكون غيابها أو فتورها أو ارتباكها بمقدار ما يعتري التلقائية من غياب أو فتور أو ارتباك.
إن جوته كغيره من المبدعين لا يدعي بأن معرفته الزاخرة وعبقريته الفيّاضة كانتا من ثمرات موهبته النادرة وإنما يعترف بأنهما من ثمار الاهتمام التلقائي القوي المستغرق الذي يولده الحب العميق وإني لأعجب أشد العجب كيف غاب عن المربين الدور الحاسم للاهتمام التلقائي فتجربة التعلُّم التلقائي في الطفولة التي تسبق التعليم المدرسي حاسمة في دلالتها فنتائج أربع سنوات من التعلُّم التلقائي أشد تأثيراً من ربع قرن من التعليم المرهق الموصول بل إن الإنسان يبقى مرتَهَناً في فكره واهتماماته وسلوكه بما تعلَّمه تلقائياً قبل دخوله المدرسة!! إن إغفال الدور الحاسم لتلقائية الإنسان قد أضاع على البشرية وعلى المجتمعات وعلى الأفراد فُرَصاً هائلة للتعلم والازدهار خصوصاً في المجتمعات التي لم ينشأ الناس فيها على الحب التلقائي للمعرفة فمع طول الفترة التي تقضيها الأجيال في التعليم النظامي فإن النتائج في الغالب تأتي هزيلة بل كارثية في المجتمعات المتخلفة ذات الثقافات الراكدة المغلقة ولو صُمِّمت مناهج التعليم بما ينمي الميول الجيدة ويخلق الاهتمامات الحضارية لكانت النتائج مدهشة..
وإذا كان الحبُّ الدافع للاهتمام التلقائي القوي المستغرق شرطاً لمجرد تحصيل المعرفة وأن درجة التحصيل تكون مرهونة بدرجة الحب، فإن هذا الشرط يكون ألزم وأوثق في المهام الإبداعية أو حتى لما هو دون ذلك من مطالب المهارة والإتقان في الفكر والعمل..
إن جوته بعبقريته الفذة النادرة لا يأخذه الصلف ولا يخدعه الغرور فيزعم كما يفعل بعض الجاهلين بأن ذكاءه الخارق هو مصدر ثرائه المعرفي أو بأن معرفته الواسعة العميقة هبطت عليه وهو غير مكترث وإنما يجعل الاهتمام التلقائي الشديد المدفوع بالحب الجيَّاش هو الشرط الأول لهذا الثراء المعرفي والقدرة الإبداعية..
وإذا نحن تتبعنا حياة المبدعين في كل مجالات الفكر والعلم والفعل فسوف نجدهم مثل جوته يواصلون التأكد بأن عبقرياتهم وإبداعاتهم كانت ثمرة الاهتمام التلقائي القوي المستغرق فجوته لا ينفرد بهذا الربط العضوي الوثيق بين الحب والمعرفة باعتبار إحداهما نتيجة للآخر وإنما يتكرر هذا المعنى في كتابات النوابغ الحقيقيين وأهل التفوق الباهر فهذا العالم المؤسس ماكس فيبر يؤكد المعنى ذاته في كتابه (صنعة العلم) فيقول: "لن يتاح أبداً امتلاك التجربة الشخصية للعلم بدون هذا الثمل العجيب فبدون هذا الانفعال أو الهوى: أنت لست مدعواً للعلم وينبغي لك أن تفعل شيئاً آخر لأنه ما من شيء جدير بالإنسان كإنسان إلا متى استطاع الإنسان أن يطلب هذا الشيء ويفعله عن هوى متحمس وتفان انفعالي" ولعل القارئ يعيد قراءة النص الفيبري بإمعان وتدقيق فهو يعتبر العلم مع كل متعلم بمفرده هو تجربة شخصية وما لم يستشعر المتعلم حرارة ونشوة هذه التجربة فإنه لم ولن يتعلَّم أما حفظ المعلومات وترديدها دون انفعال ونشوة فليس علماً ولا تعلُّماً فالتعلُّم الحقيقي لابد أن يكون مصحوباً بالتلذذ العارم بالمعرفة والانتشاء القوي بها واستمرار الرغبة الشديدة فيها وعدم الارتواء منها والتلهف الدائم إليها والتعايش الحميم معها ومواصلة التلاحم مع مصادرها بانفعال متأجج وحماس ملتهب وحب عميق بل إنه وهو العالم البارز صاحب الشهرة العالمية يريد من المتعلّم أن يكون ثملاً بالمعرفة تُسكره لذّاتُها وتستغرقه مباهجها أما الذي لا يبتهج بالمعرفة ولا يتلذذ بالعلم فإن فيبر وهو المرجع الموثوق في أمور التعليم والتعلُّم يدعوه إلى أن ينصرف لمجال آخر لأن العلم لا يستجيب إلا لعاشقيه..
وهذا المعنى نجده ماثلاً في حياة جميع النابهين من العلماء والفلاسفة والمفكرين والأدباء والمبدعين فكل من يقرأ تاريخ العلم والفكر والفن سوف يجد تلازماً لا ينفك أبداً بين حب المعرفة وتحصيلها وبذلك تتأكد حقيقة أن الابتهاج بالعلم والمداومة عليه والتفرغ له شرط لتحصيله وأن الشوق العميق المتجدد إلى المعرفة هو المدخل الطبيعي لتحقيقها..
إن هضم المعارف المختلفة وإدماجها في النفس ليكون انسيابها تلقائياً بعد امتزاجها في الذات وكذلك تكوين رؤية ذاتية قائمة على العلم إن كل ذلك يتطلب اهتماماً ذاتياً قوياً مستغرقاً وإخلاصاً للعلم وحباً له واستغراقاً فيه أو كما يقول ماكس فيبر: "يُعتبر ذا شخصية في حقل العلم ذاك الذي يكرس نفسه للعلم فقط وينذرها للعمل الذي في متناوله وهذا لا يصدق على حقل العلم وحسب بل نحن لا نعرف فناناً عظيماً سبق له القيام بأي شيء سوى خدمة عمله وحده" إن التكريس الفعَّال ليس هو التكريم الذي يأتي قسراً أو اضطراراً وإنما هو الذي يأتي اندفاعاً وحباً فالعقل البشري لا ينفتح ويستجيب إلا إذا أحب فلا ينفذ إلى الأعماق وتتجلى له الحقائق إلا إذا كان مهتماً ذاتياً بهذا النفاذ بوصفه مطلباً من مطالبه الذاتية وليس مطلوباً منه ولا مفروضاً عليه ولا ملزماً به ففي هذه الحالة يسخو بالتركيز الشديد والمتابعة الحميمة وبدونهما تبقى المعرفة سطحية ومفصولة عن الذات وغير مندمجة في التكوين الذهني والوجداني للإنسان كما أنه بدونهما لا يستطيع الإنسان أن ينجز شيئاً ذا قيمة مهما كان هذا الشيء ومهما كان موضوعه..
إن الإنسان إذا كان أمام موضوع يستحوذ على اهتمامه في مجالات العلم أو العمل: فإنه يحتشد له تلقائياً احتشاداً كاملاً بكل طاقته العقلية والعاطفية ويستبعد عن ذهنه أي شواغل أخرى حتى يفرغ منه أو على حد تعبير ماكس فيبر: "ينبغي عليه أن يكون متفرغاً له" إن هذا العالم الفذ المجرب يطلب من الإنسان أن لا يعتلي خشبة المسرح (مسرح العلم أو العمل) إلا بعد أن يسيطر على موضوعه سيطرة تامة ولن يتحقق له ذلك إلا بأن يخلص للمهمة التي أمامه وينذر نفسه لها ويمحضها الاهتمام القوي المستغرق وكما يقول فيبر: "إن هذا وحده دون سواه هو الذي يرتفع برجل العلم إلى آفاق الموضوع الذي يدَّعي خدمته وما يصدق على العالم يصدق على الفنان وعلى كل من يضطلع بشأن ذي بال" إن حب المعرفة والشعور الصادق بالحاجة إليها والاقتناع التام بعظيم قيمتها هو الحافز القوي الذي يجعل الباحثين يجدون متعة غامرة في عناء البحث ويحسون بلذة موصولة في مداومة التنقيب..
إن معرفة الحقائق واكتشاف الأغوار وتصحيح الأخطاء وتبديد الأوهام هي أثمن مكتسبات الإنسان في هذه الحياة ان الإنسان يرتقي بإنسانيته بمقدار تقليص مساحات الجهل وتوسيع آفاق الاستنارة.. إن الجهل بالنسبة للذين يدركون قيمة المعرفة غول مرعب لابد من بذل أقصى الجهد للفرار منه ولذلك تتضاءل كل ملذات الحياة أمام لذة الابتهاج بالعلم فهو الذي يمنح المغزى للحياة وهو الذي يهب الإنسان قيمته وجدوى وجوده إنه الضوء وسط الظلام وإنه الاخضرار وسط الجدب وانه الطريق وسط التيه..
إن العلم هو ريُّ العقل بعد ظمئه وأُنس الفكر بعد وحشته وطمأنينة الذهن بعد قلقه ويقين الفؤاد بعد حيرته إنه شبع النفس بعد جوعها وغنى الوجدان بعد فاقته ولكن قلة قليلة في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية تدرك هذه القيمة العظيمة للعلم فتسعى إليه وهو مشغوفة به ومتلهفة إليه أما الأكثرية الساحقة فهم فارغون من هذا الشغف الدافع بل يتجرعون المعلومات اضطراراً من أجل الشهادات دون إدراك هذه الأهمية القصوى للعلم ولذلك يبقون محرومين من مباهجه فينبغي أن نبدأ في غرس الحب للعلم قبل البدء في تلقين العلم ذاته لأنه لن يتعلم تعلُّماً حقيقياً من لا يعيش مباهج المعرفة ولم يتذوق مسرات العلم فالابتهاج بالعلم شرط لتحصيله ولكن العلم لا يعرض مباهجه عارية فوق سطوحه وإنما يخبؤها في أعماقه فلا ينتشي بملذات فتوحات العلم وحقائقه إلا الذين يدركون عظمتها ويكافحون من أجل اكتشافها..
فلن يتعلم من لم يندمج بالعلم فيدرك القيمة الذاتية العظيمة للمعرفة ولن يتخفف من أثقال الجهل من لا يشعر بهذه الأثقال فلابد أن يتربى جميع الناشئين على حب العلم وإدراك قيمة المعرفة وكره الجهل والسعي إلى الانعتاق منه والشعور بالعار عند الاتصاف به..
إن فرحة الكشف وبهجة الفهم وسعادة الانفلات من قبضة الجهل هي التي حققت للإنسانية هذا التقدم الباهر في مجالات العلم والفكر والفن والإبداع فإذا لم تستطع الدراسة النظامية أن تغرس في نفوس كل الأجيال الناشئة تذوق هذه المباهج والتشوق إلى هذه الأفراح والشعور الفياض بالقيمة الذاتية للعلم: فإنها تكون قد فشلت في أداء مهمتها فشلاً ذريعاً..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.