تمضي بنا السنون وتتابع الأيام دون أن نشعر بها، وحين يستجد في حياتنا أمر ما نبدأ بالتفكير في ما سبق. قبل سنوات عدة حين اقترب عداد حياتي من الخمسين قرع جرس بداخلي يذكرني بأنني تعبت من العمل، ومن تكرار الروتين اليومي، ولن أستطيع إخماد ذلك الصوت إلا بالتقاعد من عملي كمعلمة، عملي الذي قضيت فيه ما يفوق الخمسة وعشرين عاماً معلمة ومربية وأم. وواقع الأمر أنه حين التفت إلى نفسي وجدت أن الشيب قد نسج في شعري خريطة بيضاء رمادية، لقد كبر أولادي وكبرت معهم، ولكنني مع ذلك ما زلت أريد التفرغ لهم مع خوفي الشديد من الضياع في عالم التقاعد، فحالنا كما يقول الشاعر: صغيرٌ يطلبُ الكِبرا.. وشيخٌ ود لو صَغُرا وخالٍ يشتهي عملاً.. وذو عملٍ به ضَجِر كنت أستشيط غضباً من عبارات لا معنى لها لطالما سمعتها ممن حولي، الملل والضيق وسوء الأوضاع المادية، وافتقاد الصديقات وقائمة طويلة لا تنتهي. ولكنني اكتشفت أن السعادة منبعها دواخلنا، وتتغذى بما نملكه من أحاسيس وما تمتلئ به حياتنا من مقومات وما لدينا من إمكانيات، فمنابع السعادة متعددة ومختلفة من شخص لآخر حسبما يرى وما يحب، فمصادرها كثيرة، مال وصحة وذرية وسكون. وامتلكت شجاعاتي كلها وقدمت أوراق التقاعد وكلي خوف ووجل من الندم على قرار لا رجعة فيه. في البدايات كنت أشعر بالغربة من نمط الحياة التي بدأت أعيشها، توجست من كل شيء، وشعرت أنني حبيسة قفص حدوده السماء، ولا جدران له. ومرت الأيام وعادت الحياة تدب في جنباتي، ورأيت أولادي بعيون أخرى ليست في رأسي وشعرت بهم بقلب آخر يدق خارج صدري. وتفكرت في أولئك الذين لطالما خوفوني ودفعوني لتأخير ما لا بد منه أنهم يتناسون حقيقة أن السعادة الحقيقة تأتي من أعماقنا، ونحن الذين نصنعها بأنفسنا كيفما شئنا، ووقتما نريد. بعبارة قصيرة التقاعد نهاية رحلة غايتها نبيلة، ولكنه بداية لحياة جميلة مليئة بحبنا لمن حولنا، ومشاركتنا لهم.