نظرت إلى الساعة التى كادت تقارب العاشرة وعرفت أن الأولاد سيتأخرون مرة أخرى، جذبت ألبوم الصور ورحت أقلب صفحاته حتى أقتل الوقت، وقادني التقليب إلى صورة فاطمة زوجتي المتوفاة بعد أن نهشها السرطان قبل عشرين عاماً بلا رحمة، تذكرت كم كانت حنونة وعطوفة، كم كنت محظوظا بها وبحياتنا الصغيرة السعيدة، ورغم كل تلك السنوات إلا أن طيفها لم يبارح ذاكرتي، وكلماتها التي قالتها لي صبيحة يوم رحيلها لا تزال ترن في أذني ولن أتوقف عن سماعها إلى نهاية العمر، حيث كانت آخر كلمات نطقت بها: "الأولاد، لا تعذبهم اعتني بهم" ومن يومها عاهدت نفسي على أن لا تدخل حياتهم زوجة أب، ولن تكون لهم أم بديلة، مرت السنين ورأيتهم يكبرون سريعا وكان هذا عوضا لي عن ما رأيته في وحدتي الصعبة؛ وبعد مرور تلك السنوات أصبحت لهم حياتهم الخاصة، فتزوج أكبرهم وله ثلاثة من الأبناء بينما رحل الأوسط للمنطقة الشرقية، لدراسة الهندسة ليصبح مهندسا كما كان يحلم دوما، أما صغيرتي المدللة فقد رحلت للولايات المتحدة في بعثة دراسية وبقيت أنا وحدي أنتظر يوم الخميس وزيارة أحمد وأحفادي والتي لا تكون منتظمة خاصة في أيام الاختبارات، حتى الأصدقاء لم يبق منهم أحد فأكثرهم رحلوا من هذه الدنيا، أو أنهكهم المرض، كثيرون راحو ينصحونني أن أتزوج لكن كيف لي أن أحب امرأة بعد المرحومة فاطمة، وهل بقي في العمر ما يكفي لأن أبدا من جديد؟! تنهدت وأنا القي بالألبوم جانبا رحت أدور في الشقة كالنمر الحبيس وأنا أفكر فيما يمكن فعله لتمضية الوقت، وضعت الفحم على النار استعداداً لتحضير النارجيلة التى يقول طبيبي إنها ستقتلني يوما غير عالم أن الوحدة أكثر فتكا من أي سموم أخرى، دق جرس الباب فعرفت انه لابد وأن يكون احمد ركضت للباب وفتحت فوجدته لكنه كان وحيدا قطبت جبيني ورحبت به قائلا: مرحبا يا ولدي أين الأطفال؟ رد متضجرا: لقد أصرت أمهم أن يذهبوا للملاهي مع أبناء خالتهم. هززت رأسي دون أن اعلق دخل إلى غرفة الجلوس وغير المحطة الفضائية التي كنت أشاهدها بدون أن يستأذن، رحنا نتجاذب أطراف الحديث بينما ظل ينظر لساعته طيلة الوقت متعللا أنه يجب أن يذهب ليصحب زوجته وأولاده وبينما هو في طريقه للخروج قال وعلامات الاشمئزاز ترتسم على وجهه: أبي حاول أن تفتح النوافذ للتهوية فالرائحة تكاد تكون قاتلة خاصة انك تدخن في الشقة لماذا لا تستخدم البلكون عوضا عن وضع الأغراض القديمة فيها. بعثت كلماته ذكريات جميلة عشتها في حياتي، فلطالما كنت أجلس أنا وفاطمة في البلكون ثم كففنا عن ذلك بعد أن ارتفع عمران البنايات المجاورة، وقررت حينها تحويلها مخزنا للأغراض القديمة، اختمرت الفكرة برأسي لماذا لا أفتحها غدا وأرمي كل الأغراض القديمة واستخدمها كمكان لتدخين النارجيلة، خاصة أن الجو متحسن هذه الأيام، وفي تلك الليلة نمت وأنا سعيد كطفل بالحلم الجديد، وما كادت الشمس تشرق حتى طلبت مساعدة الحارس في تنظيف البلكون وقبل أن ينتصف النهار كان البلكون جاهزاً، دلفت لقيلولة حتى أرتاح قليلا وبعد العصر كنت مستيقظا، وضعت الفحم وغسلت الرأس لوضع المعسل وبعثت الحارس في جلب بعض المكسرات حتى تكون السهرة كاملة تماما كما كنا نفعل أنا وفاطمة رحمة الله عليها، رحت أنفث دخان النارجيلة في الهواء الطلق وأنا أشعر بالحياة تملؤني، رحت أرقب الشارع والناس وأنا أشعر كأني بعثت من الموت، إذ شعرت على الأقل بأني أشارك الناس فيما يفعلون وأنا أرى ذهابهم وإيابهم، وبعد ذلك أصبح البلكون جزءا يوميا من حياتي أعني بنظافتها وتزينها بالنباتات كما فكرت بإعادة طلاء الجدران، ومع الوقت أصبحت أعرف حركة الشارع ومواعيده وأوقاته ومواعيد أهل الحي وعاداتهم وزوارهم وأصبح لا يخفى عليّ أي وجه جديد أو أي عادة غريبة تجري. وفي أحد الأيام لاحظت سيارة غريبة توقفت في شارع جانبي للعمارة ونزلت منها ابنة جارنا وهي تتلفت حولها ومن ثم تبعها الشاب وانزويا في غرفة الحارس القديمة، بينما يحمل لي الهواء جزءاً من حديثهما الذي تخللته كلمات العشق والحب تركا بعضهما، فهرعت الفتاة صاعدة درجات العمارة بينما انطلق الشاب بسيارته. آه كم هو الحب جميل، تكررت لقاءاتهما الحارة في الغرفة المهجورة ذات السقف المكشوف والذي استعجبت كيف أصبح جميلا بعد أن غمره الحب،أخذت على نفسي عهداّ أن أرعى حبهما فرحت أراقب الأجواء كي لا يراهما أحد وحتى أحذرهما في حالة وجود من قد تقع عينه عليهما،ظلا على هذه الحالة لمدة شهر تقريباً إلى أن جاء اليوم الذي نزلت فيه الفتاة دون أن يلحق بها الشاب ولم أفهم حينها ما جرى، إلى أن جاء اليوم التالي حيث راح الشاب يدور بسيارته في الحي وحول العمارة لساعات طويلة دون أن يتوقف أو ينزل منها، لوحت له فلم يراني تذكرت حينها "كشاف" أبقيه حين تنقطع الكهرباء فجريت لأحضره ورحت أشغله وأطفيه حتى يلاحظني، بالفعل توقف هرعت نحو باب الشقة بعد أن انتعلت حذاء خفيف لأكلمه نزلت وكانت علامات الارتباك ظاهرة على وجهه ابتسمت وقلت له: لا عليك يا بني فأنا أعرفك واعرف حبيبتك ابنة جارنا لقد كنت أرى لقاءاتكما طيلة الوقت هل من مساعدة يمكنني تقديمها لك؟؟ ظهر على وجهه خليط من الخجل والحرج في الوقت ذاته وقال بعد تردد: سلوى غاضبة مني بسبب نقاش دار بيننا البارحة ولم ترد على اتصالاتي وأنا أحاول أن أوصل لها هذه الأمانة. نظرت للصندوق الصغير الذي ناولني إياه وقلت بثقة: لا تقلق سيكون لك ما أردت. شكرني بحرارة وركب سيارته ورحل بينما راح عقلي يعمل كالصاروخ حتى استطيع أن أوصل الأمانة بأسرع وقت ممكن، واستقر رأي على أن أوصلها لسلوى في الصباح الباكر حين تخرج للجامعة، لم أنم تلك الليلة وأنا انتظر الصباح وما أن خرج أبوها وأخوتها للمدرسة حتى حضر السائق الذي يأخذها للجامعة فذهبت انتظرها عند باب الشقة، وما كادت تغلق الباب حتى وجدتني أسد طريقها لم أدع لها مجالا للكلام لأني سارعت قائلا: لقد ظل ينتظرك طيلة الليل إنه يحبك. ثم أردفت قائلا بالرغم من دهشتها: وهذا لك. ناولتها الصندوق ودخلت شقتي بعدها اختفت أخبارهما لعدة أيام إلى أن دق جرس الباب في المساء لأفاجأ بوالد سلوى، صعقت حين رأيته خوفا من كونه قد كشف القصة وجاء ليؤنبني لكنه عوضا عن ذلك قال لي: يسرني حضورك لخطبة ابنتي سلوى في نهاية الأسبوع. فرحت كثيرا وباركت له ورحت انتظر نهاية الأسبوع على أحر من الجمر وبالفعل حضرت الخطبة والتى كانت عبارة عن اجتماع عائلي بسيط ورأيت الشاب هناك وباركت له وعرفت منه أنه وسلوى أصرا على دعوتي للاحتفال العائلي لأنهما اعتبراني فردا من العائلة بعد أن ساعدتهما، خاصة أن الصندوق كان يحتوى على خاتم الخطبة الذي قدمه لها، ليثبت حسن نواياه بعد أن اتهمته سلوى بأنه غير صادق معها، شعرت بسعادة لا مثيل لها فمنذ أن كبر الأولاد لم أشعر بأن لي قيمة أو أهمية في هذه الحياة عدت ذلك اليوم للبيت وأنا أشعر بأني بطل من أبطال الأساطير الإغريقية سيظل اسمي يذكر في قلوب هذين الشابين رغم أن ما فعلته لم يكن شيئا يذكر، نمت في تلك الليلة بعمق لم أذقه منذ فترة طويلة برغم كل الأدوية التى كنت استخدمها للنوم. كل يوم كان يمر يمثل مغامرة جديدة بالنسبة لي حتى أن عدد معارفي ازداد نتيجة لجلوسي في البلكون، فكل من يمر يلقي التحية وأردها بمثلها أو بأحسن منها، ومع ذلك كانت تمر أيام مملة لا يوجد فيها ما يذكر لكن أكثر الأيام إثارة هو ذلك اليوم الذي رأيت فيه شخص ما يعتدي على سيارة مركونة في جانب الشارع حيث قام بتكسيرها بفأس يحمله معه وعندما جاء اليوم التالي رأيت صاحب السيارة يقف بجانبها مع فريق من الشرطة الجنائية، فنزلت وأخبرتهم بما رأيت وذهبت معهم لقسم الشرطة حيث أدليت بشهادتي هناك وشعرت بعدها أني فرد فعال في المجتمع وليس مجرد عجوز وحيد نسيه أولاده وجار عليه الزمن، أصبحت لي سمعة جيدة في الحي يدعوني أهله لكل المناسبات، كما أصبحت أشارك في الإشراف على صيانة المسجد وجمع التبرعات في أيام رمضان وتوزيع زكاة الفطر. وهذا لم يكن ليتحقق لولا أني فتحت البلكون وفتحت معها باب للحياة لم اعرفه من قبل، وحمدت الله أني بذلك لم اترك الوحدة تنهشني حتى أولادي لم أعد افتقدهم مثلما كنت أفعل من قبل، فقد أوجد لي البلكون حياة جديدة واهتمامات تشغلني وتغذيني بالطاقة والحب، وأدركت أن الحياة لا تنتهي إلا بالموت وعوضا عن ذلك فهي تجدد بأشكال وألوان مختلفة. • قاصة سعودية