لا يمكن لمن استنشق رائحة العرعر ممزوجة بالضباب الذي لا يكاد يفارقها طوال العام أن ينسى تلك الرائحة مهما طال به الزمن. كما لا يمكن للنساء اللواتي رعين أغنام أهاليهن وهن صبايا أن تنسى إحداهن ظل العرعر الظليل. لهذه الشجرة قيمة اجتماعية وثقافية في المجتمعات القروية المنتشرة على جبال السروات جنوب غربي المملكة، وهي قيمة مستمدة من الماضي قبل التطور والتمدّن، وقبل الاعتماد على الحديد الصلب والأسمنت لبناء البيوت، حين كان أهل تلك القرى في أعالي الجبال وفي أعماق السهول والأودية، يتخذون من جذوعها الطويلة والمتينة أسقفا لبيوتهم، وبهجة خضراء ممتدة بلا انتهاء. فالعرعر كما هو معروف، بكل فصائله، شجرة صنوبرية دائمة الاخضرار، وتعيش لأعمار طويلة جدا تصل إلى مئات السنين. خطر محدق ومع حلول فصل الصيف، أو بالأحرى إجازة الصيف، تعيش غابات العرعر تحت خطر الفناء المحدق، في حالة يمكن تشبيهها بالهلع الإنساني. فهذه الشجرة في ظل توافد أعداد كبيرة من السياح "المصطافين" إلى المنطقة والذين يفضل الكثير منهم سياحة "الخيمة" أو "التخييم"، تتعرض للعديد من أشكال الجور والإيذاء البيئي، حيث تنتشر الخيام المليئة بالباحثين عن النسمة الطبيعية العاطرة، في جبال منطقة عسير ومتنزهاتها، كالسودة ودلغان والحبلة وغيرها من المواقع التي يغلفها الغطاء النباتي والذي يشكل العرعر النسبة العظمى فيه، فترتفع حالات الاحتطاب الجائر لأشجار العرعر وغيرها، وتكثر المخلفات البشرية من مواد عضوية وغير عضوية، بل إن الكثير من هذه الأشجار المعمرة تعرضت للإحراق بكل بساطة، بعد وقوفها في مكانها ذاك لمئات السنين. قيمة وثقافة إن الأشجار المعمرة في أي مكان في العالم، أيا كان نوعها، تتحول مع الوقت لتصبح جزءا من ثقافة ذلك المكان وقيمه الإنسانية الرفيعة. فهذه الشجرة على تعدد أصنافها تحظى باحترام كبير من المجتمعات التي تعيش حولها في كل المرتفعات التي تناسب أشجار العرعر للاستيطان والتكاثر. ما جعل هذه الشجرة في القارة الأميركية – مثلا - شجرة مباركة ويعتقد الناس من حولها بقدرتها على طرد الشياطين. إذ بلغ احترام هذه الشجرة، ليس إلى كتابة الشعر في جمالها المعمر على مدى أجيال تعقبها أجيال وأجيال من البشر، ولا حتى إلى التغني بها على وجه الخصوص في مئات الأعمال الغنائية في أوروبا وتركيا وأميركا، بل وإلى تحولها إلى ما يشبه الأسطورة. "المعادل".. البيوت كانت "المعادل" من أصعب المهام التي تتصدى لها القبائل بشكل جماعي في منطقة عسير. حيث يجتمع الرجال الأشداء ليتعاونوا على نقلها من موقع إلى آخر، حتى تصل إلى المكان المطلوب، فيما يشبه البروتوكولات القبلية حينها. حيث تعد المساهمة في نقل المعادل، هي الأهم على صعيد التعاون الاجتماعي في المجتمعات القروية في عسير. لذا، كان الأهالي لا يدخرون طعاما أو شرابا إلا ويقدمونه لهؤلاء المتطوعين ولو قسرا في غالب الأحيان، لنقل المعادل. وبالنظر إلى حال العرعر اليوم، وحال المعادل التي ترفع عليها وتشدّ أسقف المنازل وأدوار الحصون الكبيرة، نجد فرقا من حيث طول جذوعها، فالمعادل جذوع عرعر طويلة جدا، بينما العرعر الموجود اليوم لا يشي بقدرته على الارتفاع إلى تلك الحدود الشاهقة، التي تبلغ 6 أمتار أحيانا! غير أن كبار السن في المنطقة يفسرون هذا اللغز، بأن المعدل أو المعادل لا يتم الحصول عليها عن طريق الاحتطاب الفوضوي، بل إنهم يعملون على قص فروع الشجرة الواحدة من الأسفل إلى الأعلى بشكل متواصل ومنظم، يوجه نمو العرعرة نحو الأعلى (رأسيا) بدلا من النمو الأفقي. رمز وجداني كما استخدم الأهالي في زمنهم القديم، زمن البدايات والامتزاج بالطبيعة التي لا يوجد غيرها لمساعدة الإنسان على الاستقرار والبقاء، استخدموا العرعر لبناء أبواب البيوت ونوافذها، ولصناعة بعض أدوات الزراعة والطعام وغيرها من الاستخدامات التي لا تكاد تعد، لهذه الشجرة من قبل المجتمعات القروية قديما في مرتفعات الباحةوعسير. حيث استخدموا العرعر في الماضي لتعطير البيوت والأثاث ولتعطير الفم أيضا، والجسد. فضلا عن قيمته الرمزية الوجدانية في نفوس الذين عاشوا في بيوتهم التي يشيدها الحجر والعرعر قبل أي مادة أخرى.. في قلوب أولئك الذين فهموا الحياة بدءا من خلال لحظات لا تنسى من حياتهم أمضوها في ظلها الوارف الجميل، وفيما تشكله من أفق أخضر وممتد في كل اتجاه، مكاني وزمني. فالكثير من الجيل القديم، الذين قضوا والذين ما زالوا على قيد الحياة، لا يخلو أحدهم من حكاية أو سرّ عميق أو ذكرى خالدة ترتبط بكل معانيها بظل واحدة من أشجار العرعر. فهي لم تكن كبقية مكونات الطبيعة من غيم وتراب وحجر، فالناس من حولها يصرون دوما على أنسنة العرعر، خصوصا تلك المعمرة والواقعة في مكان استراتيجي أو على شيء من الوضوح الذي يمنحها الأهمية في أذهان الناس. الكثير منها يحمل اسما خاصا به لا يتغير، كاسم الإنسان. بل إن الكثير من القبائل المتجاورة أخذت تحدد مساحاتها ومزارعها بأشجار العرعر. لكن اليوم بات الأمر مختلفا عما كان عليه. القبيلة تحمي العرعر ومن أهم ملامح المكانة الاجتماعية التي حظي بها العرعر في عسير، أن القبيلة كانت تشرع عقابا رادعا لكل من يحتطب غصنا أخضر من أشجار العرعر على وجه الخصوص. حيث يقول علي محمد عسيري (65 عاما) كان أهالي القرى في جبال تهلل (سودة عسير) يعاقبون من يلاحظ على ابنته احتطاب عود أخضر من غابات العرعر، فيما يسمى ب"العثامة" وهي مأدبة عشاء يعدها لجماعته نظير ما ارتكبه أحد أبنائه من خطأ يبدو أنه كان مرفوضا بشكل صارم، في حق واحدة من هذه الأشجار. الاحتطاب هو الحل! صالحة بنت أحمد آل شيبان (60 عاما)، وهي إحدى اللواتي رعين أغنام أهليهن في جبال "تهلل" بعسير، وكانت على علاقة وثيقة بهذه الشجرة ، قالت: إنها ما تزال تتذكر جيدا موسم احتطاب العرعر في "تهلل" التي تكاد تلف قريتها (جو آل شيبان). لتصل إلى تأكيدها أن ما حل بالعرعر اليوم لم يكن ليحدث لولا توقف هذا النوع من الاحتطاب الجائر. وقالت آل شيبان (60 عاما) إن الرجال في القرى المحيطة بجبال تهلل في سودة عسير، قد تعارفوا في الماضي على موسم محدد هو مرحلة ما بين فصلي الشتاء والربيع، يكرسون فيه جل وقتهم وجهدهم لاحتطاب ما يبس من أغصان العرعر، وما أن يصل الربيع إلا وقد اكتست تلك الجبال خضرة تبهج النفوس تظل في ازدياد حتى يحين موسم الاحتطاب في العام الجديد. وتستطرد صالحة آل شيبان في حديثها عن هذه الشجرة بشيء من الحسرة حول ما تواجهه اليوم من عبث الإنسان. تقول: لا أنسى حسرة تلك العرعرة التي تفيأت ظلها جداتي وربما جداتهن، حتى وصلني الدور، ومضى بنا الزمن بعيدا عن القرية والطبيعة على مدى أكثر من 4 عقود من عمرها، حيث زارت نفس المكان الذي تقف فيه هذه الشجرة المعمرة والثمينة في نفسها، فوجدتها ذاوية تماما بعد أن أشعل العابثون نارهم في عزّها فماتت من جذورها قبل أن تلفظها الأرض. وناشدت آل شيبان الأجيال الجديدة من الشباب بأن يقدروا القيمة الرمزية والطبيعية لهذه الثروة الغالية على نفوس أهلها، ومن يرتبطون وجدانيا بالكثير من الذكريات والحكايات والمواقف بأشجار العرعر. أرقام وتقارير وبحسب تقارير منتزه عسير الوطني البيئية، فإن الغابات تغطي نحو 2.7 مليون هكتار من مساحة المملكة أي ما يعادل 1.35% من المساحة الكلية، معظمها يتركز في الجزء الجنوبي الغربي تحديدا على سلسلة جبال السروات حيث غابات العرعر شديدة الخضرة. وعلميا، يهيمن العرعر الفينيقي على الارتفاعات التي تفوق ال 2000 متر فوق سطح البحر، كالجزء الجنوبي من سلسلة جبال السروات، أما على ارتفاع 1700 متر فوق سطح البحر يوجد العرعر مختلطاً مع الزيتون البري وبعض أنواع الأكاسيا. ولكن هذا الغطاء الأخضر البهيج تعرض مع الأسف خلال العقود الماضية إلى تدهور اتسم بالموت الجزئي أو ما يسمى في ب"الموت القمي" أو الكامل، فحددت بعض الدراسات والمشاهدات عدة أسباب لهذا التدهور، منها موجات الجفاف والسحب السوداء والأمطار الحمضية، وإعاقة مجاري مياه الأمطار والجريان السطحي للمياه وتدهور التربة والتمدد العمراني. وهي ظاهرة عالمية، حيث تم رصدها في مختلف قارات العالم وذلك في 17 دولة منها كينيا وليبيا وباكستان والولايات المتحدة. الشعور بالخطر هذا الأمر دفع بالجهات المسؤولة عن البيئة والزراعة كحماية الحياة الفطرية ووزارة الزراعة وغيرها من الجهات لتنفيذ مشروع طارئ لتأهيل العرعر في جبال السروات قبل نحو 7 سنوات من الآن بهدف اختبار وتحديد مواقع تمثل النظام البيئي للعرعر في جبال السروات، وعمل نظام مراقبة للنمو وللحالة الصحية للتوصل إلى أعراض التدهور العامة، خاصة "الموت التراجعي" مع التعريف بأسباب الأعراض المرضية. وبدأ العمل على تنفيذ خطة إعادة تأهيل العرعر وعمل برنامج تدريبي لبعض الكوادر بإدارة الموارد الطبيعية بوزارة الزراعة. وتم حينها اختيار وتحديد 26 موقعاً ممثلة لمنطقة الدراسة وذلك في كل من منتزه السودة وبللسمر (حظوة والشعابة) والنماص (السرابة والخرشم) و( متنزه الجرة )، وهو اختيار على أساس التباين المناخي والارتفاع عن سطح البحر. العرعر دواء وللعرعر كما ورد في تقرير بحثي وعلمي للأستاذ بجامعة الملك سعود الدكتور جابر القحطاني وزملاؤه بقسم العقاقير بجامعة الملك سعود قام بدراسة الزيت الطيار لنبات العرعر، فوجدوا أنه يحتوي على مركبات كثيرة تصل إلى 80%، وكان أهمها باينين، وبايونيك أسد، وكاسفين، وسدرال، وسيدرين، وسيسكو تربين. كما وجدوه يحتوي على قلويدات وجلوكوزيدات قلبية وأحماض عضوية بالإضافة إلى أملاح من أهمها الكالسيوم. ومن أهم المركبات المفصولة التي أعطت تأثيرًا مضادًا للبكتريا وخاصة البكتريا التي تسبب مرض السل الرئوي، وقورنت هذه المركبات بالمضادات الحيوية التي تعطى لعلاج مرض السل ووجد أن هذين المركبين أقوى من تلك المستحضرات. الاستعمالات للعرعر استعمالات كثيرة فقد ورد ذكر العرعر في وصفات فرعونية في بردية هيرست وإيبرز كوصفات علاجية لتسكين آلام وأمراض القلب والصرع ولعلاج التهابات المسالك البولية ولإدرار البول ولتسكين المغص الكلوي وضد حالات الحمى ولإدرار الطمث ولآلام المفاصل والروماتزم. وقد صنع الفراعنة من ثمار العرعر شراباً ضد الدودة الشريطية ولعلاج النزلات المعوية ولعلاج السعال والربو. ومما هو جدير بالذكر أن العرعر جاء في عشرين وصفة معظمها لإدرار البول ولمنع الشيب في الرأس. يستعمل مشروب أوراق العرعر بنسبة 25 جرام + 180 ملي ماء مغلي + 5 جرام نترات البوتاسيوم + 15 جرام عسل نقي والجرعة من 2 إلى 3 أكواب يومياً وذلك لعلاج عسر البول وحصوات المجاري البولية والاستسقاء. ويجب عدم استخدام أي من أوراق أو ثمار أو زيت العرعر من قبل المرأة الحامل أو الأطفال تحت سن السادسة.