القلوب تغرد بألسنتها في اللقاءات والاجتماعات والنقاشات، وكل تغريدة على حسب عدد الحروف التي حددت لها، فتبدأ عدا تنازليا حتى الصفر، كما هي الحال في «تويتر»، ثم يذهب كل في حال سبيله. كما أنه لا يمكنك أن تغرد في «تويتر» إلا بعد تنسيق تغريدتك لتظهر للآخرين بالمظهر المرضي والشكل الحسن. كذلك هي كلمتك إذا سلطت عليك الأضواء لتدلي بما عندك، عليك مراجعتها مرارا، لتخرج وهي تمسح على القلوب مسحا، كالغيث إن أقبل على الأرض غدقا سحا. في مبادراتك الأوساط المجتمعية لا تكن موسوسا بطيئا، ولا متهورا عجولا بذيئا، ولا في الحق خجولا بريئا، احرص على أن تكون بريئا من المحبطات والذنوب والجرائم، ودع البراءة في مجاملة العقم في العقليات وتثبيط العزائم. كثيرا ما تحل جملة «وجهة نظر» العديد من احتدام النقاشات التي لا طائل منها ولا مصلحة مرجوة، لا سيما إذا كان المتناقشون -بحكم ثقافتهم وعلمهم- يوظفونها ويفعلونها بالطريقة المثلى في الطرح. «وجهة نظر» هي أيضا مشكلتنا في إساءة استخدامها، عند من يجهل قيادتها، فيخالف بها سير مركبات النقل الصحيح، ويصطدم بأرصفة العقل الصريح، وقد يتضرر المشاة الباحثون عن العلم أيضا! * سمعت أن مناقشة حصلت بين رجلين في مسألة فذكر أحدهما للآخر آية قرآنية كريمة لا تحتمل أكثر من معناها، ولا ينقض المتأولون مبناها، فقدمها دليلا، فقال صاحبه: «هذي وجهة نظرك!»، وزعم أنه بعقله يعرف ما يجب عليه! لذلك في المسائل التوقيفية يقدم النقل (الوحي) على العقل، لأن العقل لا يعصم من الاضطراب، والرأي الغريب، والعزم المريب، أما النقل بكتابه وسنته فقد أخبر الله تعالى بحفظه: (بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ). (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ۖ تنزيل من حكيم حميد). ومخطئ من قال بتعطيل العقل بتاتا، فهو مساند لشرع الله بتفكيره وفطرته، فهو إدارة أداء العبادات وتنفيذها، وأداة التفكر في خلق الله: (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض)، وكل عقل يولد على الفطرة السليمة، ولكن المكتسبات التي يكتسبها في حياته، والتي يغذى عليها ويربى من والديه ومجتمعه، كانت سببا في تغيير مسار فطرته إلى اتجاهات عديدة، ما لم يكن مسلما، يقول ﷺ: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»، أي يجعلانه يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا، ولم يقل يجعلانه مسلما، لأن عقل المولود المسلم موافق للفطرة وأبواه يعززانها فيه، فلا ترى فطرته تستغرب أو يرى أن هذا غير منطقي. ولم يسم العقل عقلا إلا لأنه اشتق اسمه من العقال الذي تعقل به الراحلة. - فعلى صاحب العقل أن يجعل لعقله من اسمه نصيبا، في تصرفاته بردعه عن المتاهات التي لا تنتهي وبعض النقاشات التي تساء فيها العبارات، وتفرد العضلات لإقناع الطرف الآخر وإرضاء الذات. وورطة تناقض العقل وتهوراته وجهله ليست خاصة بجهلة الناس، فربما نالت ممن لهم باع طويل في العلوم المفيدة على اختلاف أصنافها وإيجابياتها، لو أن العقل وحده يكفي بذكائه وخبراته، دون أن يكون هناك نقل (صحيح) يسانده -ويتوكأ عليه في شيخوخة المنطق وغياهب الحيرة- لما حصلت القصة التالية -وغيرها كثير-: - يحكى أن دكتورا هندوسيا رأى رجلا مسلما يقطع لحما ويقليه فجعل يبكي ودموعه تتحادر من عينيه، فلما سأله المسلم عن سبب بكائه، قال: هذا إلهي تقطعه أمامي وتقليه، وأنا أتفرج! دكتور متعلم ومثقف يحمل شهادات عالية معتمدة وخبرات طويلة، ولكن عقله لم يسعفه بحكم أنه لم يفرق بين الحق والباطل، ولم يبحث عن الحقيقة التي تساند عقله وفطرته، الحقيقة التي هي أهم من علمه الذي أفنى عمره فيه، دون أن يطلق سراح عقله من حبس الخرافات وتقديس التفاهات! * الخلاصة: الكلام الذي تزنه وزنا دقيقا في مخاطبتك المجتمع، كذلك يجب أن يكون دقيقا في موافقة المبادئ التوقيفية، التي لا يقال فيها بالرأي أو وجهات النظر، وإذا كان إنكارك على مخالف المبادئ التوقيفية ليس إلا إبرازا لشخصيتك، وليس خالصا لربك، فعملك هباء منثور، ونفعه معدوم، فيعتريك الغضب وترفع الصوت وتنتصر لكلمتك، وتريدهم أن يجتمعوا على قبول كلامك؟! (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)، فأصلح نفسك قبل أن تحاول الإصلاح، بإخلاصك، وقل لهم قولا لينا.