إن فكرة السلام العالمي والإقليمي ليست جديدة، ففي ضوء الحروب الدموية الطويلة في أوروبا طرح بعض مفكري القرن التاسع عشر فكرة السلام العالمي الدائم، وكانوا يقصدون بالتحديد السلام في أوروبا. ولقد استخف مفكرون آخرون بهذه الفكرة. ومن بين من انتقدها الفيلسوف الألماني الشهير هيجل ووصفها بأنها خيالية لا يمكن تحقيقها. وعلى الرغم من إقرار هيجل بأهمية المعاهدات الدولية في تحقيق السلم بين الدول المتنازعة إلا أنه كان يعتقد أن بعض الخلافات والمنازعات بين الدول «لن تُحل في نهاية المطاف إلا عن طريق الحرب». ولو أن هيجل كان موجوداً بيننا اليوم لجزم بوقوع الحرب في أزمة الخليج ولو بعد حين، إلا إذا تم توقيع اتفاقية أو معاهدة بين دول الأزمة لتسويتها. إن نقاط الخلاف والنزاع في أزمة الخليج كثيرة وقد لا يتم تسويتها وحسمها فعلا إلا بالقوة العسكرية. وقبل استعراض نقاط ومسائل النزاع في أزمة الخليج أريد العودة إلى هيجل قليلاً لأذكر أنه اُتّهمَ من قبل مفكرين وفلاسفة أوروبيين معاصرين له بأنه من دعاة الحرب والدمار. ودافع هيجل عن نفسه وأوضح أنه ليس من دعاة الحرب والتدمير ولكنه فقط ينظر نظرة واقعيةً لمسألة الحرب والسلم بين الدول. فالحرب حسب هذه النظرة قد تصبح في بعض الحالات ضرورة لا بد منها أو شر لا بد منه. ويبدو أن هيجل قد ترك تأثيراً واضحاً على تطور ما عُرف بالمنهج الواقعي في التحليل السياسي وخاصة في العلاقات الدولية. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية أصبح كثيرون من أساتذة السياسة يؤمنون بضرورة الحرب أحيانا مع إيمانهم أيضاً بقدسية السلام وحاجة العالم إليه. فالاعتقاد بضرورة الحرب في بعض الحالات لا ينقص من أهمية السعي لتحقيق السلام الدائم. والحرب في بعض الأوقات تساعد حقيقة على تحقيق السلام الدائم بين الدول. ولقد تبلور في إطار مناقشة الحرب والسلم مفهوم الأزمة في نظريات العلاقات الدولية لتوضيح الفرق بين المشكلة والأزمة. فالأزمة أشد حدةً من المشكلة. والأزمة في أصلها هي خلاف ونزاع نتجت عنه مشكلة أو مجموعة مشاكل مستمرة ازدادت في حدتها وخلقت أزمة إقليمية أو دولية. والأزمة بعد نشوئها يمكن أن تنتهي بالتفاوض والسلم، أو بالحرب، أو تنقص حدتها وتعود بالتدريج إلى كونها مشكلة كما كانت قبل أن تتحول إلى أزمة. فهناك على سبيل المثال مشكلة مستمرة بين الهند وباكستان في كشمير بدأت منذ أواخر أربعينات القرن العشرين. وفي عدة مناسبات تصاعدت المشكلة إلى أزمة وأدت أحيانا إلى وقوع مصادمات عسكرية محدودة بين الطرفين، ثم انخفضت حدتها وعادت ثانية إلى كونها مشكلة باقية. وأن أي نظرة واقعية لمسائل الخلاف والنزاع في أزمة الخليج وتباين المواقف حولها تجعل أي محللٍ سياسي واقعي يحكم الآن بأن احتمال ذهاب أزمة الخليج إلى الحرب هو احتمال كبير. فنقاط الخلاف والنزاع في أزمة الخليج خطيرة وذات أبعاد إقليمية ودولية كبيرة وتمس مصالح أمنية وسياسية واقتصادية لكثير من دول العالم الرئيسية. ويمكن تلخيص جوهر الخلاف والنزاع في أزمة الخليج بست نقاط رئيسية هي: 1. رفض المجتمع الدولي كله محاولة إيران تطوير سلاح نووي من خلال تخصيب اليورانيوم. 2. رفض المجتمع الدولي عامة ودول الخليج خاصة امتلاك إيران ترسانة من الصواريخ الباليستية، وتزويد وكلائها بها واستخدام الحوثيين لهذه الصواريخ وللطائرات الإيرانية المسيرة في ضرب أهداف مدنية في السعودية والإمارات. 3. رفض السعودية وكثير من دول المنطقة سياسة إيران التوسعية ومحاولتها فرض الهيمنة على الدول العربية في سورية ولبنان والعراق واليمن، ورفض الأعمال الإرهابية التي تمارسها إيران في المنطقة وأهمها تعبئة وتسليح الخلايا الشيعية العربية التابعة لها، وقتل وإرهاب الأئمة الشيعة العرب الرافضين لمبدأ ولاية الفقيه الإيرانية. ولقد أدت هذه المسألة إلى وقوع مواجهة مباشرة بين القوات السعودية والميليشيات التابعة لإيران في البحرين قبل عدة سنوات، حيث تمكنت السعودية من إحباط مؤامرة إيرانية تهدف لفرض هيمنتها على البحرين بالقوة. 4. رفض عالمي لتهديد إيران بإغلاق مضيق هرمز ولوقوع بعض الاعتداءات على ناقلات النفط ووجود شبهات حول إيران في تنفيذها. 5. رفض أميركي لمحاولات إيران التحرش بالقوات الأميركية الموجودة في المنطقة واستفزازها. 6. وتتعلق نقطة النزاع الأخيرة برفض إيران العقوبات الاقتصادية الأميركية ضدها وحرمانها من تصدير النفط، ولقد قال أحد المحللين السياسيين الإيرانيين في هذا الأمر «قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق». وإن كلامه صحيح من حيث المبدأ ولكن المشكلة أن حكام طهران يستخدمون أموال بترول إيران لتمويل عملائهم في المنطقة، عوضاً عن استخدامها في تطوير إيران ورفاهية شعبها. ويلاحظ أن بعض نقاط النزاع هذه قديمة وبعضها يعود إلى عقدين من الزمن تقريبا، وأما بعضها الآخر فقد تبلور خلال السنة أو الأشهر الماضية. والمهم من استعراض نقاط النزاع في أزمة الخليج هو توضيح خطورة وحجم أبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية إقليمياً ودولياً. ولهذا فإن جميع من توقعوا وقوع الحرب بين محوري الأزمة لم يكونوا مخطئين من حيث منطق التحليل السياسي. وما زال توقعهم صحيحا أيضاً حتى الآن، وذلك لأن احتمال الحرب ما زال قائماً. وفي أعقاب إسقاط إيران الطائرة الأميركية المسيّرة ظن البعض أن الحرب ستقوم، ولكن أميركا لم ترد على الاستفزاز الإيراني الكبير لها، لأن ردها يمكن أن يؤدي إلى الحرب، في حين أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يريد التريث قليلاً في مسألة الحرب، والسبب الذي يدفعه إلى ذلك هو ملاحظته لمعارضة بعض الدول الفاعلة والمؤثرة في العالم مثل روسيا والصين وأوروبا واليابان، وغيرها، لقيام الحرب ودعوتها إلى ضبط النفس. ولمواجهة هذا الأمر وخاصة وأن انتخابات الرئاسة الأميركية غير بعيدة، فلقد شعر الرئيس الأميركي بأن معالجة الأزمة ومواجهة إيران تحتاجان إلى بناء تحالف دولي يضمن لترمب الغطاء السياسي الدولي الذي يمكنه من توجيه ضربة عسكرية قوية لإيران. تحالفٌ يضمن حياد روسيا والصين ومشاركة أوروبا ودول عربية وإسلامية فيه، مع إعطاء مزيد من الوقت لأي وساطة يمكنها إقناع إيران بالتنازل عن موقفها. فهل سينجح ترمب في تشكيل هذا التحالف الدولي الصعب؟ أمر متروك للأيام والأسابيع المقبلة. وقد تسهل عليه إيران هذه المهمة إذا زادت فعلاً من تخصيبها لليورانيوم. وللمقالة بقية إن شاء الله.