تقتضي طبيعة الحياة البشرية أن يكون لأحدنا صديق واحد أو أكثر. وتبدأ ملامح هذه العلاقة في التشكل منذ سنوات الطفولة الأُولى وما قبل الالتحاق بالمدرسة، فتجد الطفل يميل إلى اللعب مع أشخاص بعينهم في محيطه الاجتماعي، يشعر معهم بانسجام تام واتزان نفسي، يمضي الوقت سريعا دون أن يلاحظ هو ورفاقه، وما إن تناديه أمه لمغادرة مكان اللعب، منزلا كان أو حديقة، إلا وتنهمر الدموع مع عبارات التوسل والرجاء بتمديد فرصة اللعب قليلا، وقليلا في عقله تعني ساعتين أو أكثر. لقد أحسّ هذا الصغير بوجوده وسعادته مع من شاركهم لحظات مليئة بالسرور، وقاسمهم ألعابه وطعامه وشرابه، فتحققت لهم جميعا البهجة والمشاركة في أجمل صورها. أخبرني أخي الكبير «سلطان»، أن لديه صديقا رائعا منذ زمن الطفولة، سألته عن سر استمرار الصداقة بينهما كل هذه السنين؛ فأجابني: صديقي العزيز وأخي الغالي «عبدالعزيز» لم يتغير منذ عرفته ونحن أطفال صغار. إنسان أصيل في جميع الأحوال، في غضبه ورضاه، عندما كان في بداية تكوين حياته، وحين أنعم الله تعالى عليه واغتنى، وهو صديقي الأصيل الصادق معي، معدنه كالذهب، لا تغيّره الظروف. باركتُ لأخي هذه الصداقة الحقيقية، ودعوتُ له ولصاحبه بالسلامة ودوام المودة، وأيقنتُ أن استمرار الصحبة يعتمد على صلاح طرفيها، وكلما كان الصديقان يتعاملان مع بعضهما بالصدق والإخلاص والإنصاف والاحترام؛ كلما امتدت صداقتهما أعواما وأعواما، وازدادت مع السنين ثباتا وشموخا. لا تسلم علاقة الصداقة من ظروف الزمان المتغيرة وأحواله المتقلبة، تتأثر بها قوة وضعفا، فإذا ما زاد الفضل بين الأصدقاء؛ زادت صداقتهم متانة، وإن تسلل الطمع والخديعة والجفاء إلى علاقتهم؛ تداعت أركانها، وانهدم بنيانها، ومن أهم ما يجبر كسور الصداقة التماس العذر للمخطئ، ومنحه فرصة أخرى لإصلاح ما أصابه العطب، قال «دعبل الخزاعي»: تَأَنّ ولا تَعْجَلْ بِلَوْمِكَ صاحِبًا لَعَلّ لهُ عُذراً وأنت تَلُومُ وما ضَرَّ الصداقة وقطعَها مثل سوء الظن والإهمال والجحود والصدود، وإنك لتنظر إلى صحبة طويلة مثمرة بين اثنين، وإذا بها تنتهي كما تنقشع سحابة الصيف، وحين تتأكد من الحقيقة، تكتشف أن أحد الطرفين سمّم الصداقة بجهله ورعونته وانسحابه، ثم غيابه، ووصل معه صاحبه إلى نهاية الصبر. العتب صابون القلوب، وما أحوج الأصدقاء إلى هذا الصابون السحري، لينقّوا صداقتهم مما يشوبها ويلوثها، بل العتب دليل قوي على صحة العلاقة بين اثنين، ومن أغبى ما يرتكبه الأصدقاء من حماقة، أن يصغوا آذانهم لكلام فلان وعلان من الناس، والفعل الصحيح -كما هو المعلوم لدى العقلاء- أن يسمعوا من بعضهم بعضا لا من الناس، ويستوضحوا موقفا غير مفهوم حصل من أحدهما، وسرعان ما تعود المياه إلى مجاريها، وتهدأ النفوس المضطربة، وينقلب الواشون خائبين. وما زال في العمر بقية لمعالجة صُحبة ثمينة أصابها المرض، وتأخر إعطاؤها الدواء الناجع لنسيان أو إهمال، ولا ينسى الصداقة إلا شخص جاحد، سيشرب من كأس المرارة ذاتها عما قريب. يقول بعضهم: الصداقة المبنية على المصلحة تزول بانقضاء المصلحة، وهذا القول يختلط فيه الصواب مع الخطأ، وهل الحياة إلا مجموعة من المصالح يسعى الناس إلى الحصول عليها؟! بل من الجميل والمفيد أن يجتمع الأصدقاء حول مصلحة يجنون منها ما يعود عليهم بالمنفعة، وكم من أصدقاء تجمعهم الصداقة القوية والمصالح الكثيرة، ولن يجد الإنسان أفضل وأكثر أمانة من صديق تربطه به الأخوّة والثقة، ليتشارك معه في تجارة يتقاسمان مكسبها، ومن حق أحد طرفي الصداقة أن يرفض هذه الشراكة منذ البداية، إذا خشي أن تكون سببا في القطيعة بينه وبين صديقه، وعلى الصديق الآخر أن يتفهم الرفض، ويدرك أن بقاء العلاقة الطيبة خير من كنوز الدنيا كلّها. يا رفيق الحرف، ما أكثر العلاقات التي ربطتك مع الآخرين، علاقات تعددت أشكالها وأسبابها، صمد بعضها إلى لحظة قراءتك هذه الكلمات، ومات بعضها لأسباب مختلفة، اِفرح بما بقي من صداقات، وامنحها غاية عنايتك. انظر وتأمّل فيما تلاشى من الصداقات، هل كانت تستحق البقاء؟ هل أنت المتسبب في انهيارها وخسارتها؟. لا شك أنك عرفتَ عددا من البشر، ساقتهم الظروفُ والأقدار إلى طريقك، ارتبطتَ معهم برابطة الصداقة، تعلمتَ منهم ما أضاف إليك إضافة ذات قيمة؛ أنت الآن لا تتذكر إلا أسماءَ معدودة مِن بينهم جميعا، لقد كان معظمهم أناس عاديون وعابرو قلب، ذهبوا كما أتوا، وهذه الأسماء المعدودة هي الأرواح التي تشبهك، وتسكُن روحك إلى اليوم. yba13@