وثاني إجراء في عملية تحنيط الأحياء، تأتي بعد حمل الضحية الصغيرة، التي تم تحنيطها اسما، بتحنيطها فعلا، وذلك بغرس أخلاق وطباع المرحوم الجد في الطفل، ولو كان كل منهما ينتمي إلى زمن غير زمن الآخر. والأدهى من ذلك، عندما نعلم يقينا، أن الجد المرحوم، هو كذلك كان ضحية تحنيط على شاكلة جده المرحوم، والذي قد يكون أقل منه مستوى في التفكير والفعل. إذًا، فالمولود الجديد يعدّ جديدا من ناحية زمن الولادة، أما من ناحية جدة وزمن التفكير والطباع، فهو لا يعدو كونه نسخة أصلية، إن لم تكن باهتة، عن أجداده الذين سبقوه في التحنيط. إذًا، فهو في الحقيقة، محنط ابن محنط ابن محنط المحنوط، من قطيع المحنطين في الأرض. وللتأكد من أن إجراءات عملية تحنيط الأحياء، مستمرة وتجري بأمان وسلام، من غير تشويش أو تغبيش على المحنط «المحسود» من كل حاسد أو حاقد أو مجرم فاسد، يتم إقناعه بمبررات التحنيط. وهي -وبلا شك أو ريب- بأنه ذو حظ عظيم وينتظره خير عميم، لأنه نسل أجداد هم أفضل أجداد مشوا على سطح الخليقة، نَسَبا وحسَبَا وكسْبا «حتى ولو كان منهم قطاع طرق أو متسولون»!، وبأن طباعهم وطبائعهم، هي أفضل وأرقى طباع وطبائع، طبع الله عليها خلقه، منذ آدم عليه السلام. وإفهامه بأن من يتطورون ويفكرون وينتجون في زمنه أو من كانوا قبله، وحتى من سيأتون مثلهم من بعده، ما هم إلا عبيد سخّرهم الله لخدمته، كما سخّرهم قبلُ عبيدا لأجداده، وسيسخّرهم من بعد لأحفاده، محنطي المستقبل، والذين سيكونون -وبلا ريب- هم قلاع حفظ توابيت الماضي وحرسه الأشاوس في المستقبل «الغابر». فإعادة إنتاج الغابر لا يمكن أن تكون نتيجتها إلا غابرة، إن لم نقل أغبر، ولو طال إلا غبرتها الطريق. وقد يكون النفخ الإثنولوجي والميثيولوجي غير كاف لضخ طباع وطبائع الماضي في عقل المحنط الصغير، والذي وجد -وللأسف الشديد- في عالم يموج بالمتغيرات حوله. ولذلك يتم تلحيم النفخ الإثنولوجي والميثيولوجي بلحام أيديولوجي. ويتم إرضاعه إياها رضاعة، قد يستطيبها ويطرب لها أكثر من رضاعة حليب أمه. وللتأكد أن اللحام لا ينفك، يتم تأسيس مؤسسات تعليمية وثقافية وأمنية، تشد من مفاصل اللحام كلما كاد أن يتحلل مفصل منها، وذلك لحراسة طباع وطبائع الماضي التليد من أن تؤثر عليها عوامل التعرية، كما تفعل بالجبال والصخور العاتية. وأما تلميع اللحام فَحدِّث ولا حرج، فحتى لو كبر محنطنا الصغير، وحصل على أعلى الشهادات العلمية من أعرق الجامعات في العالم، فسيتبرع -بالإثبات «علميا»- بأنه قد ثبت علميا، وعلى لسان جهابذة العلم في العالم، بأن طبائع أو بعض طبائع أجداده هي أفضل ما يمكن أن ينتجه الإنسان، وبأن العالم أجمع ما زال يعاني نكبة أنه ليس من نسل أجداده أو ورثتهم. وهكذا يعبّر كهنة التحنيط عن ذواتهم. لم لا؟! وهذه الطباع والطبائع الماضوية -وحدها دون غيرها- التي اختارها المحنطون لتكون المُشكّل لهويتهم، والمعبر عن ذواتهم دون غيرها، من الهويات المكتسبة، من قدرات ذهنية وإنجازات إنتاجية صناعية وتقنية وعلمية وثقافية، حتى أصبحوا عبارة عن مخلوقات تاريخية تتحرك في الحاضر، ولذلك فليس بالمستغرب، عندما يسافر محنطنا «العالم» إلى مصر، ويأخذ صورة له بجانب إحدى المومياوات الفرعونية المحنطة، فستظهر المومياء في الصورة أكثر منه حداثة، مع كونها كانت تعيش قبل زمانه بسبعة آلاف سنة. "الوطن" 2008