يكاد يعتبر المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي في نيويورك أكبر متاحف العالم، فهو يتكون من 72 مبناً متصلاً، ويحوي على أكثر من 32 مليون عينة من الكائنات الحية والأحافير والصخور. وبالتأكيد تخضع معروضات المتحف للتطوير والتحديث المستمر، ما عدا صالة واحدة فقط أكملت قبل سنوات مئة عام لم تتغير معروضاتها قيد أنملة! إنها صالة "أكيلي" للثديات الإفريقية، تلكم الصالة المهيبة التي كانت نتاج رائد التحنيط "كارل أكيلي". ذلكم الرجل الذي لم يحصل على شهادة جامعية في التحنيط لأنه لم يكمل الدراسة، لكن شغفه به، وعمله الدؤوب في تطوير تقنياته جعله يكنى بأبي التحنيط الحديث، هذا الهوس والإصرار رغم الفقر واضطراه العمل تحت إمرة الحاصلين على الشهادة الجامعية في التحنيط، والأقل كفاءة منه؛ قاده لابتكار تقنيات جديدة أقرب للواقعية، رفعت من مكانة التحنيط كعلم وفن. تخصص في الثديات الإفريقية وبالذات الغوريلا والفيلة، ليعمل على تحسين تقنيات تركيب الجلد على قوالب أجسام الحيوانات، مما ساعده على إظاهر العضلات والأوردة والتجاعيد، وبالتالي أنتج حيوانات كما لو كانت حية، ولك أن تتصور أن اهتمامه بتطوير التقنيات قاده إلى ابتكارات أخرى بعيدة عن التحنيط لكنها تدور في فلك البيئة المحيطة به، مثل اختراعه طريقة "الخرسانة المرشوشة"، وذلك لاستخدامها في إصلاح واجهة أحد متاحف شيكاغو المتهالكة، واليوم هي الطريقة المستخدمة في رش الخرسانة خلال بناء المنازل حول العالم! كما طور كاميرات التصوير السينمائية التي استخدمها في توثيق حياة الثديات الإفريقية. سافر "أكيلي" العام 1909م إلى إفريقيا لقضاء سنة استكشافية، ثم التحق بالعمل في المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي في نيويورك، وخلال سنوات معدودة انضم إلى نادي المستكشفين، وبدأ بتحقيق حلمه أن يصنع أقرب تحنيط للحيوانات، خصوصاً زوار المتحف حينئذ بحاجة لذلك، حيث لا تلفزيونات ملونة ولا كتب مصورة عن تلك الحيوانات، فبدأ الأمر بالفيلة وامتد لغيرها، ولم يكن فقط تحنيطها، بل أرسل الرسامين إلى غابات إفريقيا، لرسم بيئتها بشكل دقيق، ليتم وضع محنطات كل فصيلة في واجهة عرض زجاجية تمثل بيئتها، تحتوي عينات من الأشجار والتربة مع خلفية مرسومة بشكل نصف دائري لتعطي الإحساس بواقعية المشهد، كما لو كانت الحيوانات طليقة في السفاري والغابات. هذه القاعة العظيمة بعد اكتمالها كانت سبباً لموافقة ملك بلجيكا على إنشاء أول متنزه وطني بإفريقيا في ما يعرف حالياً بالكونغو الديموقراطية. في رحلته الاستكشافية الخامسة إلى إفريقيا أصيب بالزحار، ليتوفى ويدفن على بعد كليومترات قليلة حيث واجه أول غوريلا، لكن عمله وشغفه بتلك الحيوانات وبيئتها بقيا شاهداً على الاتقان هناك في نيويورك حتى يومنا الحاضر.