يأتي عدد كبير من الزوار إلى متحف التحنيط في مدينة الأقصر في صعيد مصر وفي جعبتهم كثير من المفاهيم الخاطئة عن عملية التحنيط وأهدافها وكيفية تنفيذها. فمنهم من يعتقد بأن الزئبق الأحمر يساعد في تجفيف الأجساد وآخرون يظنون بأن هناك نوعاً من الإشعاع النووي توصل إليه المصريون القدماء وساعدهم في تحنيط أجسادهم!! وهذه ليست مشكلة في حد ذاتها لأن دور الأثريين العاملين في هذا المتحف يكمن في تفنيد هذه الأخطاء الشائعة بأسلوب علمي يعتمد على أسانيد قوية، تتمثل إما في الدليل المادي القطع الأثرية المعروضة أو في معلومات تركها لنا القدماء على جدران مقابرهم ومعابدهم وصفحات بردياتهم. وفي الآونة الأخيرة ظهر رأي غير علمي يتحدث عن "تركيبة سحرية تساعد في تجفيف الجسد" قيل إنها مشابهة لما كان يستخدمه المصريون القدماء، وإن أصحاب هذا الرأي تأكدوا من نجاح تركيبتهم السحرية تلك عندما جربوها على أرنب، وأيدّهم بعض الصيادلة في زعمهم أنهم كشفوا سر التحنيط المصري. هذا السر المزعوم الذي جذب انتباه الناس لم يعلق عليه أحد من الأثريين لأنه يعتبر وهماً من الأوهام التي نتجت من قلة المعلومات المتوافرة أمام الناس. ولكي نرد على هذه المزاعم نبدأ بسرد المصادر التي نعتمد عليها في معرفة خطوات التحنيط المصري القديم. من المعروف أن توارث المهن والوظائف كان شائعاً في مصر القديمة، فعلى سبيل المثال هناك أسرة توارثت مهنة الهندسة الإنشائية والمعمارية في مصر القديمة لفترة تزيد على أربعة وعشرين قرناً من الزمان. وتركت هذه العائلة سرداً لتاريخها على صور وادي الحمامات في الصحراء المصرية الشرقية. ويبدأ تاريخها من المهندس العظيم إيمحوتب الذي عاش في القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد وحتى المهندس خنوم إيبرع الذي عاش في اوائل القرن الخامس قبل الميلاد. وهكذا الحال في مهنة التحنيط التي توارثتها إحدى العائلات المصرية غير المعروفة حتى الآن منذ بداية التاريخ المصري القديم وحتى خواتيمه. وبدراسة بعض النقوش والنصوص المصرية القليلة اتضح أن هذه الحرفة كانت لها لوائح وقواعد منظمة مكتوبة. وسجّل كبير كهنة آمون آني - إم - حر الذي عاش في أواخر عصور التاريخ المصري ما يلي: "نُفذ له كل ما هو ضروري في التحنيط طبقاً لما هو مكتوب". وإذا تتبعنا مصادر المعلومات عن فن التحنيط نجد أنها تنقسم ما بين مصادر مصرية أصلية وأخرى ثانوية: أما الأولى فتركها المصريون أنفسهم، في حين سجّل الأخرى الكتاب والمؤرخون الكلاسيكيون الذين زاروا مصر في أواخر عصور إزدهارها. والمصادر الاصلية هي: 1- البرديات النادرة التي سجلها المصريون ولها ارتباط مباشر وغير مباشر بمواد وخطوات التحنيط مثل: أ - بردية ليدن الرقم 344 التي ترجع الى القرن العشرين قبل الميلاد. ب - إشارات بسيطة في بردية ترجع الى القرن 17 ق.م. وأطلق عليها قدماء المصريين اسم "الفن السري للمحنطين"، وتتحدث عن دهانات ولفائف الجسد في عملية التحنيط. ج - بردية العجل أبيس 500 ق.م وتصف تحنيط العجل أبيس الذي كان مقدساً لدى المصريين. د - برديتا بولاق الرقم 3 ومتحف اللوفر الرقم 5158 اللتان ترجعان إلى العصور اليونانية الرومانية. ه - برديتا أمهرست ورايند الموجودتان في المتحف البريطاني، وبعض القطع الأخرى من البرديات التي ترجع إلى الفترة ما بين القرنين الاول والثالث الميلاديين وتتحدث عن أسعار مواد التحنيط وإجمالي كلفة عمل المومياء. 2- بعض نقوش وتوابيت المقابر التي تتعلق بعملية التحنيط مثل مقابر البر الغربي في مدينة الأقصر ومنها مقبرة "جحوتي الرقم 110 ومقبرة إنتف الرقم 164 ومقابر سن- نفر، وأمون - إم - حاب. 3- الفحص العلمي لمومياوات وأجساد المصريين التي تم الكشف عنها، ومن خلال هذه الدراسات والفحوص اصبحت لدينا معلومات حول مواد وأدوات وخطوات التحنيط على الطريقة المصرية. أما أهم المصادر الثانوية فتتمثل في إثنين من الكتاب الكلاسيكيين الذين زاروا مصر هما هيرودوت القرن الخامس ق.م وديودور الصقلي القرن الأول ق.م، ولكن كتاباتهما هي عبارة عن مشاهد وصفية وليست متعمقة ربما لصعوبة التواصل بين لغة المؤرخين الاغريقية واللغة المصرية القديمة، وربما أيضاً لأن المصريين رفضوا الكشف عن سرية فنهم التحنيط، فصعب على هيرودوت وديودور الحصول على أسرار التحنيط ولكن معلوماتهما - على أية حال - تغطي بعض النقاط في عملية التحنيط. ولكي تتم معرفة مواد التحنيط التي استخدمها المصري القديم يجب أن نلقي الضوء على ماهية التحنيط والهدف منه: التحنيط، ببساطة، هو الحفاظ على الجسد وملامحه حتى تستطيع الروح بسهولة العودة إلى الجسد الذي سيعيش فيه المتوفي في العالم الآخر. واستخدم المصري ثلاث وسائل للوصول الى هدفه وهي: وسيلة كيميائية - تشريحية، ووسيلة سحرية، والثالثة وقائية. والوسيلتان الثانية والثالثة مكملتان للأولى باعتبارها الوسيلة الرئيسية. فالوسيلة السحرية تقوم على الاستعانة بالتمائم والأحجبة المسجلة عليها تلاوات من كتب الموتى لحماية أعضاء الجسد. والوسيلة الوقائية تتمثل في وضع الجسد بعد معالجته كيميائياً في شبكة من التوابيت، تساعد في حمايته من عوامل التحلل والفناء مثل الحشرات والبكتريا. أما الوسيلة الاولى الرئيسية كيميائية/ تشريحية فهي نتاج خلاصة معارف المصري القديم للطب والتشريح والصيدلة. ولأن العدو الأساسي للمحنَّط المصري هو البكتريا بأنواعها، لذلك فإنه فطن إلى إزالة كل العوامل المشجعة على نموها في الجسد وهي: 1- قطع وإزالة أنسجة الدماغ الرخوة. 2- تذويب دهون الجسد. 3- تفريغ الجسم من بقايا ومخلفات الأطعمة التي تناولها المتوفي قبل وفاته. 4- إمتصاص المياه والدماء من الجسم حتى لا يتعرض للتعفن. 5- إغلاق مسامات الجلد وفتحات الجسم حتى لا تدخل البكتريا منها. وهكذا فإن المحنَّط لجأ إلى خمس عمليات طبية وهي: التطهير، وتفريغ الجسم من الانسجة الرخوة والدماء و المياه وبقايا ومخلفات الطعام، والعمليات الثلاث الاخرى هي التعقيم والتجفيف وقتل البكتريا. وللقيام بهذه العمليات، لا بد من الإلمام بالخصائص التشريحية للجسم، واتضح ذلك في ثلاث نقاط: أ - معرفته بأضعف جزء في جمجمة الإنسان، وهي العظمة المصغرية التي توجد أعلى جسد الأنف، وتمكن من اختراقها لإزالة أنسجة الدماغ. ب - وصل الى داخل البطن من الناحية اليسرى لمعرفته بأن غالبية أعضاء البطن تتركز في الناحية اليمنى، وخاف أن يتسبب في أي خطأ حفاظاً على الجسم الذي كان يعتبر مقدساً. ج - معرفته بأن عملية تجفيف الجسم تؤدي إلى تفتح أنسجة الجلد ولذلك أغلقها بعد الانتهاء من عملية التجفيف. والآن وبعد أن اكتملت خبرات المحنَّط الطبية والتشريحية، لم يكن ينقصه سوى المواد المعالجة التي تغطي حاجاته. وهناك برديات مصرية ألقت الضوء على هذه المواد المعالجة مثل: - بردية ليدن الرقم 344 التي تحدثت عن أهمية مادة من هذه المواد المعالجة وهي زيت الأرز: "ما عاد الرجال يبحرون شمالاً إلى جبيل في لبنان اليوم، فماذا سنفعل من دون زيت الأرز الخاص بمومياواتنا والذي به يدفن الكهنة... ويُحنط به". - وأشارت مقابر الأقصر السالفة الذكر إلى "دهن لتحنيط المومياء". - وتحدثت بردية بولاق الرقم 3 في المتحف المصري عن "تدهين رأس المومياء بالكُندر". بل ذكرت البردية نفسها تركيبة خاصة لدهانات الرأس تتركب من نِسب معينة "زهور عامو أي زهور من آسيا بنسبة واحد، وراتنغ مدينة قفط بنسبة واحد وملح النطرون بنسبة واحد". - بردية رايند في المتحف البريطاني العصر البطلمي تتضمن إشارة الى معالجة الرأس بعد نزع أنسجة الدماغ: "ملأ المحنَّط جمجمتك بالراتنغ، وقمح الآلهة، وزيت الأرز، ودهن الثور، وزيت القرفة". - وهناك بردية من القرن الثاني الميلادي تتحدث عن أسعار المواد التي استخدمها المحنَّط المصري وكانت العُملة وقتئذ هي الدراخمة اليونانية: "المُّر: 4 دراخمة و4 أوبل، دهن الثور: 8 أوبل، زيت الأرز: 41 دراخمة، نبيذ البلح: 20 أوبل". - وبردية أمهرست الرقم 125 في المتحف البريطاني، وترجع الى القرن الأول الميلادي تشير إلى أن "اجمالي كلفة عمل المومياء هو 440 دراخمة"، والمدهش هو أن سعر زيت الأرز، كما ورد في هذه البردية، كان أقل بكثير أربعة دراخمة من ذلك المدوّن في البردية السابقة. ويتضح من خلال هذه البرديات أن عملية التحنيط استلزمت وجود الكثير من المواد المعالجة التي تساعد في إنجاح الأغراض الطبية والتكيف مع الخصائص التشريحية للجسم. ومن خلال المقارنة بين هذه البرديات وبين بقايا المواد التي عُثر عليها داخل الجسد فإنه يمكن تقسيمها إلى سبع مجموعات وهي: 1- المواد المطهرة وهي "المياه" التي استخدمها المحنَّط في تطهير الجسد مادياً إزالة الأوساخ والمخلفات ومعنوياً محو الذنوب والخطايا. 2- مادة التجفيف وهي ملح النطرون الذي يمتص المياه من الجسم حوالي 68 في المئة من وزن الجسم. 3- المواد التي تحتوي على خصائص تاتينية وكيتونية وقابضة وعلى نسبة من ألدهيد اليناميك للتخلص من البكتريا مثل: قشر جذع شجرة القرفة الدارصوص، سائل نبات المُر الأصفر اللون، وسائل اللبان الذكر الكندر، وثمرة شجرة السنط، ولب خيار الشنبر، وقشر البصل. 4- مواد صمغية يتم بها إغلاق مساحات الجلد وفتحات الجسم مثل الراتنغ سائل يؤخذ من أشجار الصنوبر والعرعر وشمع النحل. 5- مجموعة زيوت ودهانات مثل: زيت التربنتاين تربنتينا ويستورد من اليونان، وزيت الأرْز من لبنان، ودهن حيوان الثور المغلي. 6- مواد معقمة لتنظيف الفراغين الجمجمي والبطني وتنظيف اليدين قبل التعامل مع محتويات الجسم وكان ذلك بمادة "نبيذ البلح" الذي ثبت أنه يحتوي على 14 في المئة من الكحل الأثيلي. 7- مواد طقسية لأغراض سحرية تستخدم في عملية تطهير الجسم مثل حبات شجر العرعر التي تشبه الحمص في شكلها. وبذلك يتضح أن المحنَّط المصري استخدم مواد كثيرة لكل منها غرض طبي، وليس هناك ما يسمى بالتركيبة السحرية لأن التحنيط لم يكن يعتمد على سر أو سحر بل هو علم له أسس ولوائح وقواعد تنظمه مع خبرات لا بد أن تتوافر عند المحنَّط وهي الإلمام بعلوم الطب والتشريح والصيدلة.