افتتح الدكتور منصور الجابري – الاستشاري ورئيس قسم علم الأمراض بكلية الطب في جامعة الملك سعود – محاضرته بسرد أبيات شعرية لحمد الحجي من قصيدة امتدح فيها الشيخ حمد الجاسر – رحمهما الله- وقال: إن الحديث عن أثر الحالة الصحية في نتاج الأدباء حديث ذو شجون ومتشعّب؛ لأن الحالة الصحية من أهم المحددات التي تحكم على كافة مناحي الحياة، بل هي الإطار الذي يحدد للمرء مدى قدراته وإمكاناته، حتى وإن حاول التسامي عن هذا الإطار أو التمرد عليه فإنه يستبطن في قرارة نفسه، وركز في البداية حديثه حول أثر المرض بتعريفه الطبي سواءً كان جسديًا او نفسيًا على ما ينتجه الأديب. جاء ذلك في محاضرة قدمها في مجلس حمد الجاسر بعنوان: أثر الحالة الصحية في نتاج الأديب: حمد الحجي أنموذجًا"، وأدارها الأستاذ سعد الغريبي، ضحى السبت 7 جمادى الأولى 1443ه الموافق 11 كانون الأول (ديسمبر) 2021م. وقال: إن دراسة هذا الأثر على حياة الأديب أمر في غاية الصعوبة والتعقيد؛ ذلك أن ردود فعل الإنسان مفاجئة ولا يمكن التنبؤ بها ولا رصدها إلا عبر دراسة دقيقة، ومن المعلوم أن ثمة بعض الفروق الإجمالية بين الأمراض الجسدية والنفسية ووقعها على الروح والجسد؛ إذ تبدأ بالصدمة والإنكار ثم الحزن والإحباط، وفي الغالب يغلب على المرضى التسامي عليها، مستشهدًا بشواهد شعرية لعدد من الشعراء كالمتنبي وأبي القاسم الشابي في حالتي الإنكار والتسامي. وذكر أن المرض النفسي أعقد بكثير من الأمراض الجسدية، فهي لا تهجم على الإنسان دفعة واحدة بل تأخذ نمطًا معينًا، وقال في هذا الصدد: إن المرض يمر بعدة مراحل منها مرحلة الحيرة والتساؤل عما حلّ به، وهي مرحلة مقلقة وتتميز بالمقاومة الذاتية عبر الهوايات كممارسة الرسم والشعر، حيث تعد هذه المرحلة من أفضل المراحل التي يجود بها؛ والمرحلة التالية عندما يستفحل المرض، حيث يبدأ المريض بإعلان مرضه على شكل زفرات، ويتمنى الموت أو يهدد به ويصبح المريض أكثر عدوانية، والمرحلة الثالثة هي مرحلة الانهيار والاستسلام للمرض حيث تضعف فيها بصيرة المريض وتقل قدراته. ثم استعرض سيرة الشاعر حمد الحجي على ضوء المراحل المتقدمة، وقال: إن الشاعر الحجي أشهر من أن يُعرّف به، فقد كان متميزًا في الدراسة على أقرانه، وكان أحد العشرة الأوائل على المملكة عندما تخرج من الابتدائية، ثم تحدث عن مراحل حياته ونجوميته في المعهد العلمي حتى أصبح في السبعينات من ألمع نجوم الشعر في الرياض، مستعرضًا قصائده في تلك المرحلة التي تألق بها. وقال: إن حمد الحجي لم يكن مصابًا بالانفصام كما تحدثت بعض الصحف، فقد كان واعيًا متمتعًا بقدرات عقلية جيدة وملكة حفظ قوية حتى بعد مرور ثلاثين عامًا على تشخيصه بالمرض، حتى في اللقاءات التي أُجريت معه في 1408ه و1409ه -أي بعد ثلاثين عامًا من تشخيصه المرض – كان حاضرًا بكامل وعيه وذاكرته ولغته القوية. وقال: إن أغلب الأدلة تشير إلى أن حمد الحجي كان مصاباً بمرض الاكتئاب الذهاني، وهو مرض يبدأ بفقدان معنى الحياة والحزن والبكاء وانخفاض الوزن وحين تشتد أطوار الاكتئاب يُصاب المريض ببعض الهلاوس السمعية التي توحي له بأنه لا يستحق الحياة ويسمع أصواتًا غريبة. وأشار إلى أن أثر الحالة الصحية على تجربة الحجي الأدبية ظهرت كالغربة الروحية الشعورية التي أوضحها خالد الدخيل في رسالته المعنونة: (حمد الحجي: شاعر الآلام)، مستعرضًا أعراضها وكيف أثرت على حياته الأدبية. ووقف عند ثلاث محطات من مراحل المرض من خلال قصائد الحجي الشعرية التي استعرض بعضها وعدّها من سبل المقاومة الذاتية التي سلكها الشاعر في المرحلة الأولى، ثم دخوله في المرحلة الثانية التي تسلطت على عقله وعبثت براحته وأشعرته بالغربة الروحية فكشفها بالشعر، ثم دخوله بالمرحلة الثالثة كما كشفتها قصيدته ظلام الليل بعد أن انهارت أسوار المقاومة الذاتية حيث ظهر فيها تمنّي الموت، وكذا قصيدة الزورق التائه، فقد بدت مختلفة عن قصائده في مراحله السابقة كقصيدتي "زمرة السعداء" و"خلف المنظار الأسود". واختتم الجابري محاضرته بإيجاز عدد من الآثار على نتاجه الأدبي موضحًا أن نار المرض عجّلت بنضوج موهبته الشعرية في فترة قياسية، لكنها ما لبثت تضطرب لتحرق الموهبة بالسرعة نفسها، وقد أرغم المرض الحجي على الانكفاء على نفسه لسبر أغوارها وخباياها عن طريق التساؤل الفلسفي المكثف؛ كما تحول الشعر عند الحجي من موهبة يسعى لإبرازها إلى وسيلة لشفاء روحه من غربتها وطريقة من طرائق التفكير في مرضه ووسيلة لمقاومته، كما أوجدت أعراض المرض معانٍ فلسفية عميقة مثل أسئلة الهوية والقلق الوجودي ومعاني الغربة الروحية، كما ساهم الصراع النفسي المرير الذي عايشه الشاعر بين عقيدته الدينية وما ألجأه إليه المرض من تسخط وتمنٍ للموت في نضج تجربته الفنية ووصولها إلى الذروة، كما توسع معجمه اللفظي للدلالة على ما يختلج في نفسه، وقد أدخله المرض في مقارنة مع أشباهه من نظرائه ممن عانوا من المرض، وأخيرًا ولّد المرض نوعًا من التعاطف الشعبي مع الشاعر فقد حظي ديوانه وقصائده بالتبجيل والإطراء.