عندما دخل الاتحاد السوفيتي أرض أفغانستان انخرط ما بين عشرة إلى خمسة عشر ألفاً من الشباب القادمين من دول مختلفة، بهدف مساعدة المقاومة الأفغانية ضد الانخراط الروسي في أفغانستان، وبقي هؤلاء الشباب في أفغانستان إلى نهاية الثمانينات الميلادية من القرن الماضي، وعندما انسحب الاتحاد السوفيتي تغيرت المعادلة وغابت التعاريف المتفق عليها لمصطلح الجهاد، حيث أصبحت كلمة الجهاد تعاني من فراغ أثر على فاعليتها، وبرزت استخدامات مختلفة لمصطلح الجهاد بحسب المصالح. بعد خروج الاتحاد السوفيتي عانى البرنامج الجهادي الذي صنعته أميركا بالدرجة الأولى بمساهمة المجاهدين من التشويش والغموض، فأصبح الفكر الجهادي في حالة قلق مستمرة بين المجاهدين وبين قادة الحرب، وكانت أولى الخطوات التي أفرزتها فترة التوقف عن الجهاد في أفغانستان تنامي ظاهرة التفتيش الأيديولوجي عن فكرة الجهاد وأصولها الأولى في المعجم الإسلامي التاريخي، لقد كانت تصورات المجاهدين تبحث في فكرة (ما بعد الجهادية Post-jihadism)، واستعادة الصورة السياسية للإسلام كما كانت في زمن الخلفاء الراشدين، هذه المرحلة سمحت بنشوء مسار عالمي لمواجهة العودة لمعجم الإسلام السياسي، وخاصة في أميركا التي اعتبرت أن أحداث سبتمبر مبرر لها بأن تستخدم الفكرة الإسلامية في مشروعها العسكري في أفغانستان. بعد أحداث سبتمبر 2001م، غزت أميركا أفغانستان بحجة الثأر لأحداث سبتمبر، وكانت أفغانستان من وجهة النظر الأميركية هي المسرح لقتل الفكرة الجهادية، كون الفكرة الجهادية بصورتها العالمية الحديثة ساهمت في سقوط الاتحاد السوفيتي، أميركا وتحت صدمة أحداث سبتمبر ورغبة في استثمار الفرصة لتحقيق مشروعاتها تناست مقادير الفكرة الجهادية في أفغانستان التي صنعتها في العام 1979م، أميركا كانت تعتقد أن اجتثاث شجرة منظمة القاعدة كفيل بتغيير الفكرة الجهادية، وتحويلها من السياق الراديكالي المؤدي للتطرف إلى سياق مختلف أقل حدة بمجرد القضاء على بن لادن. السؤال هنا: هل خسرت أميركا الحرب في أفغانستان؟ هذا السؤال يجب التعامل معه بحذر شديد، فلا يمكن القول إن أميركا بشكل مطلق خسرت الحرب، ومع أنها دفعت ما يزيد على تريليون دولار خلال العشرين سنة الماضية من أجل حرب دولة متهالكة، وهذا ما يجيب على سؤال هل خسرت أميركا الحرب؟ عملياً لم تكن أميركا تحارب أفغانستان كدولة، لقد كانت تحارب الفكرة الجهادية وتنفذ مشروعها الاستراتيجي، ونجحت في تحويل فكرة الجهاد إلى هدف مباشر للتعاون الأمني الدولي الذي قادته أميركا منذ عقود، أميركا فعلياً غير منخرطة في حرب الإسلام السياسي أو تنظيماته على المستوى الدولي، ولكنها تحذر من اندماج محتمل وإعادة ارتباط بين المرجعية الإسلامية لمنظمات الإسلام السياسي (كجماعة الإخوان)، والهويات السياسية التي يمكن أن يصنعها الجهاد للالتقاء مع أهداف الإسلام السياسي. أميركا سياسياً تدرك أن طالبان اليوم ترغب -ومن أجل السيطرة- في جهاد مفتوح وبلا حدود يكون هدفه النهائي تحرير أفغانستان بلا قيود من أحد، بمعنى دقيق طالبان تتمسك بفكرة الجهاد وليس الحرب التحريرية، وهذا ما يجعلها ترفض أي منافسة سواء من حكومة مركزية أو من قوى إقليمية أو ميليشيات محلية، وتعلم أميركا أن طالبان ستحقق أهدافها بالطريقة التي ترغب بها وليس بطريقة التحاور القائمة حالياً. أميركا لديها هدف مركزي خلف انسحابها من أفغانستان، ولكنها تغطيه بتعمد في تفاصيل مكثفة تساهم في تشعب الأهداف الجانبية، وهذا ما يحدث اليوم حول فكرة أميركا وتقييمها لخصميها الكبيرين الصين أو روسيا، وخاصة أن الحرب على أفغانستان قبل عقدين كانت الفرصة الأكثر أهمية لأميركا لتنفيذ مشروعها الحيوي (مشروع القرن الأميركي الجديد) الذي تبناه (معهد هدسون) في عهد الرئيس كلينتون، ويهدف المشروع بحسب التقارير إلى "تحقيق استحواذ أميركي على ثمار الانتصار على الاتحاد السوفيتي". عملياً سوف تنسحب أميركا والدول الغربية التي حقق وجودها في أفغانستان القدرة على توقيع شهادة دولية بأن أميركا أسقطت الاتحاد السوفيتي من كابل وليس من واشنطن، وسوف يغادر مئات الآلاف من الأفغان ديارهم ليستقروا في دول خدموا جيوشها بينما كانت تشارك في الحرب على دولتهم، ولن تكرر الصين تجربة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان هذه حقيقة مطلقة، ولن تتخلى باكستان عن أفغانستان، ولن تسمح روسيا لأي أحد أن يثير حرباً جديدة في أفغانستان تجر معها القوات السوفيتية إلى ساحات المعارك، ولن تسمح أميركا بعودة الجهاد وفق المعجم الإسلامي الراديكالي، ولن تتحول أفغانستان إلى دولة شيعية بفضل إيران، لذلك سوف تبقي هذه المعادلات أفغانستان في حرب مشتعلة لعقود مقبلة، حيث من المستحيل أن يحقق أحد هدفه في أفغانستان، حتى طالبان نفسها لن تستطيع الوصول إلى كابل وحكمها ولو احتلتها عسكرياً. نقلا عن الرياض