تسبب 11 أيلول سبتمبر بصدور كتب غدت تشكل مكتبة بسائر لغات العالم. وما اختير منها هنا لا يسعه أن يصف الا القليل من ملامح الحدث الكثيرة. وقد بدا طبيعياً، في السعي وراء هذه الملامح، الاغفال عن أوجه عدة تنطوي عليها الكتب المذكورة، كما غُضّ النظر عن جوانب مختلفة تناولتها هذه الكتب فاستحقت النقد على بعضها والتثمين على الآخر. بالأمس تم تناول كتاب جيل كيبيل الدائر حول صعود الاسلام السياسي وهبوطه، وهنا الحلقة الأخيرة عن كتابَي أحمد رشيد. "جهاد" الصحافي الباكستاني أحمد رشيد يختلف عن "جهاد" كيبيل إذ يحصر نفسه في منطقة بعينها يشير اليها عنوان الكتاب الفرعي: "صعود الإسلام النضالي في آسيا الوسطى". فالمنطقة التي عرفت فائضاً من التاريخ كان الكثير من فائضها جغرافي المصدر. ذاك ان وقوعها في قلب العالم القديم وكونها "طريق الحرير" الذي ربط الصين بأوروبا، جعلا داريوس يضمّها الى فارس في 500 ق.م. وستالين يقسّمها، في عشرينات القرن العشرين، خمس جمهوريات اشتراكية. لكن جغرافيتها لم تتحول تاريخاً حياً بقدر ما فعلت أواخر القرن التاسع عشر، حين ضُمّت الى الامبراطورية القيصرية التي ما لبثت أن صارت الامبراطورية الشيوعية. والحال أن أهل آسيا الوسطى لم يرغبوا في أن يصيروا سوفياتاً، كما قاوموا السفيتة بأكثر مما فعلت المناطق الأخرى، فتولّت المقاومةَ "العصابات" المسلمة، بحسب التسمية البلشفية. وهذه ظلت تقاتل مدعومةً من بريطانيا ومجزّأةً إثنياً وقبلياً، وعاجزةً عن تطوير أي وعي بديل، الى أن سُحقت نهائياً عام 1929. والسكان مسلمون سنّة في غالبهم وعلى المذهب الحنفي، أما الشيعة فأقلية صغرى في بعض المدن التجارية كبخارى وسمرقند، كما في طاجيكستان حيث يوجد أيضاً إسماعيليون. غير ان الصوفية تبقى أهم الحركات الاسلامية هناك، كما يبقى نزاع التقليدين الفارسي والتركي أهم المواريث الاثنية التي غدت ثقافية وسياسية. وكان القياصرة يجمعون بين دعم علماء الدين التقليديين وبين تسهيل هجرة روسية الى آسيا الوسطى تنقل معها بعض المعارف الغربية والحديثة. وهذا ما مهّد لبزوغ اعادة تأويل للإسلام رعاها "الجديدون"، وهم فرقة اصلاحية من التتر كان ملهمها اسماعيل بك غاسبرينسكي الذي أسس، في 1883، صحيفة "تركمان" النافذة باللغة التترية. وكان "الجديدون" من فرق إصلاحية كثيرة عرفها العالم الاسلامي مع احتكاكه بالغرب، فقام أساتذتهم بتأسيس مدارس جديدة بمناهج جديدة تأخذ في حسبانها الرياضيات والعلوم والمسرح والأدبين الروسي والتركي، فضلاً عن الموضوعات الاسلامية التقليدية. بيد أن احتضانهم الحداثة لم يواجه الجديدين بالروس وحدهم، بل كذلك بالعلماء. الا أن السوفيات هم من اعتبروهم، لاحقاً، "إصلاحيين بورجوازيين" ومنعوا أدبهم، حتى اذا وصل ستالين الى السلطة شرع بتطهيرهم حتى أكمل استئصالهم في مذابح 1937. وهذا لا يلغي ظهور مسلمين شيوعيين كان أبرزهم الصحافي والكاتب التتري سلطان غالييف الذي طوّع 250 الف مسلم في الجيش الاحمر لمحاربة البيض. لكن غالييف رأى أن المسألة القومية تعلو الصراع الطبقي في آسيا الوسطى، وانه لا بد من وجود حزب وجيش شيوعيين مسلمين إذ الاسلام والماركسية يصبحان قابلين للمصالحة متى نال المسلمون نوعاً من حكم ذاتي. ولئن ساير البلاشفة هذا الطرح ابان الحرب الأهلية مالوا، بعد انتصارهم، الى اعتقال غلاييف وفرض الحزب المركزي الواحد. وعزل الشيوعيون آسيا الوسطى عن العالم كلياً. فحين وفدت التسعينات واستقل أهلها أحسوا أنهم لا يزالون في العشرينات. وكان ستالين، على طريقته، رسم حدوداً عشوائية بين الجمهوريات التي استولدها: فالطاجيك، مثلاً، أُعطوا جمهورية لا تضم حاضرتيهم الثقافية والاقتصادية، بخارى وسمرقند، اللتين ضُمّتا الى أوزبكستان. وهذا أضاف سبباً آخر للنزاعات، فجاءت برامج التجميع الزراعي تتسبب في نزف بشري وهجرة واسعة الى الصين، حتى أن كازاخستان وحدها خسرت مليوناً ونصف مليون، أي ثلث سكانها، ما بين هجرة وقتل ومجاعة. وكان من الطبيعي ان تتركّز الكارثة في الكتل البشرية المتنقّلة وذات ملكيات الأرض الجماعية والضخمة. لكن السوفيات عملوا أيضاً على تحديث المنطقة. فقد نشروا التعليم واهتموا بالعناية الصحية ونمو الصناعة ومكننة الزراعة وتطوير مواصلات تلحمها بروسيا. وهذا ما ساعد على تدفق انتاج آسيا الوسطى وثرواتها على موسكو، كما صيّر الاولى مستعمرة لصناعات الثانية وسوق تصريف لملايين الروس ممن أُعيد إسكانهم بالقوة هناك، كيما يزرعوا الأرض ويديروا المعامل. في الموازاة شن السوفيات حملتهم الضارية على الاسلام وممارسته. فهو ما اعتبره البلاشفة أكثر تخلفاً من الأديان المتخلفة كلها، كما اعتُبر عنصر تهديد لسيطرتهم. وعموماً أُغلقت المساجد ومُنعت الاحتفالات ونُزع الحجاب. وبعد أن عرفت الامبراطورية الروسية عام 1917 حوالى 20 ألف جامع لم يبق منها في 1935 الا 84 مسجلة رسمياً. وفقط مع الغزو الالماني في 1941 تحسنت العلاقة قليلاً تبعاً لحاجة ستالين الى دعم الشعوب والجنسيات. لكنْ في 1944 نفى ستالين نصف مليون شيشاني الى آسيا الوسطى وسيبيريا مات ثلثهم، وتسبب الثلثان في تعقيد المشاكل الاثنية والقومية حيث حلّوا. وعاد القمع الى سيرته الأولى وإن استرخى قليلا مع خروتشوف وفي مناسبات عابرة ودعائية عن "المسلمين السوفيات" هدفها التقرّب من العالم الاسلامي. واعتمدت موسكو "إسلاماً رسمياً" مضبوطاً لم يؤثّر في السكان الذين اتجهوا الى ممارسة اسلامهم وتقاليدهم القديمة بمواظبة وسرية مدهشتين. ففي 1945، مثلاً، وُجد في أوزبكستان 600 جامع سري، وفي 1960 كان في طاجيكستان 6000 شيخ سري، فيما حافظت الطرق الصوفية الممنوعة على دورها الكبير في بعث الماضي وطقوسه. ومع غورباتشوف واصلاحاته التي رافق مناخ معادٍ للاسلام، ظهرت صحوة بُنيت معها آلاف المساجد، خصوصاً وقد صعد التطرف الديني بتأثير عوامل داخلية وخارجية. ففي الثمانينات قاتل جنود سوفيات مسلمون في أفغانستان فانجذبوا الى الاسلام الأفغاني، وفي 1986 بات المجاهدون الأفغان يعبرون حدود طاجيكستان وأوزبكستان لشن عمليات ضد الجيش الأحمر، كما غدا مئات الأوزبك والطاجيك يهاجرون سراً الى باكستان وبلدان اسلامية أخرى فيدرسون في مدارسها أو يتدرّبون في مخيماتها. وفي أواخر العقد باتت مدارس ديوباندية في باكستان تحجز مقاعد مخصصة لطلاب آسيا الوسطى. لكن فيما انصبّ التأثير الديوباندي والطالباني على من شكلوا لاحقاً "الحركة الاسلامية لأوزبكستان"، فإن الطاجيكي الأفغاني شاه مسعود هو من طغى تأثيره على الطاجيك. بيد أن أواخر 1991 تبقى محطة مفصلية. فقد اجتمع رؤساء الجمهوريات الآسيوية الخمس كازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان ليراجعوا قرار حل الاتحاد السوفياتي. وهذا القرار صنعه رئيس روسيا يلتسن ورؤساء الجمهوريات السوفياتية الأوروبية وحدهم ممن أسسوا "كومنولث الدول المستقلة". وكان طبيعياً ان يشعر الزعماء المسلمون بالاهانة، لا سيما وأنهم كانوا الأكثر تشدداً في الاصرار على الوحدة السوفياتية، والأشد حماسة في تأييد الانقلاب السيء الحظ على غورباتشوف. والحال ان الذين تولوا رئاسة الجمهوريات الجديدة كانوا شيوعيين بالغي التزمت، راعهم الاستقلال الذي رحّبت به شعوبهم. الا ان اشد ما أخافهم اضطرارهم للتعامل مع حياة سياسية ورأي عام أكثر حرية، خصوصاً أنهم جميعاً وصلوا الى الأمانة العامة لأحزابهم الشيوعية بعد وصول غورباتشوف في 1985، تبعاً للموت الطبيعي المتسارع الذي ألمّ بسابقيهم. وهكذا لم يتسنّ لهم الوقت الكافي لبناء سلطاتهم وتحصينها. وفجأة وجدت نفسها هذه المنطقة المطواعة نهباً لأزمة اقتصادية مصدرها الانقطاع الفجائي عن الاقتصاد الروسي، مصحوبة بتوترات إثنية ومشاعر مناهضة للروس، فضلاً عن أزمة حكم وشرعية. وبخليط مطلبي - إثني انفجرت نزاعات دموية عدة في آسيا الوسطى بينما كان الشيوعيون الافغان يتهاوون في كابول. مع هذا كله رفض القادة القدامى الجدد حتى التفكير باصلاحات اقتصادية تمهّد لهم طريق العون الغربي على ما حصل في الجمهوريات السلافية. وبدوره تراكم جو روسي معادٍ لآسيا الوسطى ولكونها "عبئاً علينا"، بلغ أوجه مع صعود يلتسن، وعبرت عنه المطالبة بدفع جميع الديون المستحقة بالدولار. بيد أن القادة القدامى الجدد الذين لم يحرروا اقتصادهم، عجزوا أيضاً عن انشاء اي سوق مشتركة بينهم. وكان "الحل" بالتشدد في القمع وتوطيد الطابع البوليسي لدولهم، ما دفع المعارضين والاصلاحيين، فضلاً عن الاسلاميين، الى السرية والتجذّر معاً. ولئن نظر قلة من ديموقراطيي آسيا الوسطى الى روسيا وجمهوريات البلطيق كمصادر استلهام، نظر كثيرون من الشبان الى العالم الاسلامي والاسلام. وبالفعل فوجئت النخبة، بكل اختلافاتها، بسرعة الانبعاث الاسلامي الذي لم يقتصر على بناء المساجد إذ صحبه وصول الدعاة والمصاحف والأموال من الخارج. ولأن الحكام عزفوا عن التعامل مع التقاليد الدينية والطرق الصوفية القديمة، فقد راهنوا مجدداً على "الاسلام الرسمي" المكروه والعاجز عن مواجهة اسلام شعبي وشبابي صاعد ومعزز بالدعم والمؤسسات الأهلية. وكان كلما كبر القمع زاد التحدي ممثلاً في تضخم الصف الجهادي. وجاءت الحرب الأهلية في طاجيكستان عام 1992، أشبه باعلان ضخم عن الذات تمارسه حركة اصولية من أبناء وأحفاد رجال "العصابات" التي قاتلت البلاشفة. فالحرب تلك كلّفت، قياساً بعدد السكان، نسبة من الضحايا أعلى مما كلّفته أية حرب أهلية أخرى طوال الأعوام الخمسين التي سبقتها. وكان الأب الروحي للحركة الملا محمد رستاموف هندوستاني الذي درس على الديوبانديين وتوفي في 1989، ليخلفه تلميذه سعيد عبد الله نوري، سليل احدى العائلات التي أعاد السوفيات إسكانها، عام 1953، في حقول القطن بالجنوب. ففي 1987 قاد نوري اول مظاهرة في المناطق الحدودية تأييداً للمجاهدين الافغان. وبعد اعتقاله ثم اطلاق سراحه في العام التالي، شارك في تأسيس "حزب المقاومة الاسلامية". لكن فيما نجح الحزب في طاجيكستان بسبب التقاطع العريض بين القومية والدين هناك، فعقد تحالفات مع العشائر والمجموعات الاثنية، لم تحرز فروعه في باقي الجمهوريات النجاح نفسه. ففي كازاخستان سيطر عليه غير الكازاخ، ما نفّر باقي السكان، وفي قيرغيزستان تجذّر في الجنوب بين الأوزبك وحدهم، عاجزاً عن بناء اي موطىء قدم في تركمانستان. ومع انه انتشر بسرعة في اوزبكستان غير ان اختفاء قائده عبد الله يوتايف وجّه له ضربة موجعة. وكالعادة راحت تظهر، في مناخ الحرب الأهلية، مجموعات اكثر راديكالية ك"التوبة" و"المقاتلين لأجل الاسلام". الا أن الحرب التي تناسلت هي التي أضعفت "حزب المقاومة" لعجز0ه عن التوفيق بين اثنيات زجّ القتال المتطاول بواحدتها ضد الأخرى. ومع اتفاق السلام في 1997 انشق الحزب الى معتدلين ومتطرفين يرفضون التسوية التي قضت بانضمامهم الى الجيش الحكومي. غير أن ضمور هذا الحزب الذي طمح بتحويل آسيا الوسطى كلها ساحة واحدة للجهاد، ظهرت المحاولة الثانية العابرة للحدود. فرافضو التسوية التحقوا بالقائد الأوزبكي جمعة نامنغاني الذي كان من المسؤولين العسكريين في "حزب المقاومة" بعدما قاتل في أفغانستان. وبما أنه رفض انهاء الحرب الطاجيكية، بات عليه أن ينتقل بمشروعه الى بلده الأصلي حيث أسس "الحركة الاسلامية لأوزبكستان" وبدا أشبه بغيفارا الاسلامي. لكن ربما كان أكثر ما يثير الحيرة نمو "حزب التحرير الاسلامي" الذي يفد الى آسيا الوسطى قبل اواسط التسعينات. فهذا الحزب الذي أسسه الشيخ الفلسطيني الراحل تقي الدين النبهاني، تولى قيادته في أوزبكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان شيخ فلسطيني آخر هو عبد القديم زلّوم. والحزب سري جداً ولا يمت بمطلق صلة الى تقاليد تلك المنطقة، لكن ربما أمكن ردّ نجاحه الشعبي الفائق الى جملة أسباب متضاربة: فهو بادي الاكتراث بالتكنولوجيا المتقدمة وأدواتها، يعوّل على تغيير المجتمع بعيداً عن العنف، كما يعادي الشيعة بضراوة ويخاطب إحترام سكان آسيا الوسطى للسلطنة العثمانية وكل دعوة الى بعثها. أما "الحركة الاسلامية لأوزبكستان" بزعامة نامنغاني فهي التي حظيت بدور أكبر وضوء أكبر. ذاك انها شاركت في خوض حروب طالبان ضد مسعود، ثم قدمت لطالبان مئات المقاتلين، فيما سيطرت على جزء من تجارة الهيروين التي تربط أفغانستان بأوروبا عبر آسيا الوسطى. ومن دون أن يتأكد ذلك ذُكر أنها، في العام الفائت، غيّرت إسمها ليصير "حزب تركستان الاسلامي" الهادف الى تعميم الثورة الاسلامية في تركستان التاريخية، أي سائر آسيا الوسطى وإقليم كسينجيانغ الصيني. وهو مشروع غير قابل للفصل عن المشروع الذي كان يرعاه طالبان في كابول. وكان أحمد رشيد قد أصدر كتابه "طالبان" ظهر قبل 11 أيلول، مع أنه عاد فاستدركه بطبعات تأخذ الحدث في الحسبان. لهذا فحين أطيح البرجان هرع القراء الغربيون إليه حتى صار "الكتاب الذي يقرأه الجميع"، بحسب "الغارديان". ومستفيداً من خبرته الصحافية في تغطية أفغانستان 21 عاماً، اقترب رشيد من صعوبات ذاك البلد التي يفاقهما ضعف البنى السياسية لطالبان، وغموض قيادتها. فهي، على عكس ما يفترضه "زمن الاتصالات"، لا تصدر بيانات ولا تعقد مؤتمرات صحافية. ولقد منعت الصور والتلفزيون وأحاط الجهل بمظهر زعيمها. فهي، بعد "الخمير الحمر"، أكثر حركات عالمنا سرية. لكن طالبان آخر حلقات سلسلة طويلة من غزوات التاريخ الأفغاني ومداخلات القوى الخارجية فيه. فحين ابتدأت المقاومة لموسكو وحلفائها والغزو والمقاومة كلّفا مليوناً ونصف مليون قتيل، انطلقت حول قندهار الجنوبية وتركزت في الدورانيين البشتون جنوبالمدينة. فالصراع هناك كان جهاداً قبلياً أكثر منه جهاداً ايديولوجياً بقيادة إسلاميين. أما في بيشاور، على الحدود الباكستانية - الأفغانية، فتولت الأمر سبعة أحزاب اعترفت بها باكستان وإليها اتجهت المساعدت. ولئن لم يكن أي من قادة هذه الأحزاب من دورانيي الباشتون، توزّع الشبان الذين غدوا لاحقاً قيادة طالبان، عليها. وإذا بدا توفير السلاح حاسماً في الاستقطاب، راحت التناقضات بين قيادات المجاهدين البشتون تُضعفهم جميعاً. ومع الانسحاب السوفياتي في 1989 لم تسقط العاصمة كابول في أيدي بشتونيين، بل استولى عليها المجاهدون الطاجيك والأوزبك والهزارا، ففقد البشتون سيطرتهم على عاصمتهم للمرة الأولى منذ 300 عام. وكان جميع المنضمين إلى الملا عمر أبناء الجهاد الذين أحبطهم حكم المجاهدين وحروبهم، وهناك اليوم مصنع قصص وخرافات عن تأسيس طالبان، أرجحها اغتصاب فتاتين في 1994 ممن انتقم لهما عمر، ما أعطى المسألة الأخلاقية موقعاً تأسيسياً في الحركة. لا بل جاء اختياره للقيادة، هو العديم الكفاءات، ناجماً عن تقواه. بيد أن البعدين البشتوني والأخلاقي انضافا إلى الروابط الوثيقة مع باكستان حيث عاش كثيرون منهم ودرسوا في مدارسها الدينية، لا سيما الديوباندية. وباكستان نفسها كانت محيّرة حيال أفغانستان المحررة: فحكوماتها المتتابعة بدت مهتمة بفتح الطرق البرية للتجارة مع آسيا الوسطى، وكان العائق الأكبر استئناف الحرب الأهلية في أفغانستان حيث لا يمكن لأي من الطرق المقترحة إلا المرور عبرها. ولما خيّب حكمتيار أمل المدافعين عنه داخل السلطة الباكستانية و20 في المئة من جيش باكستان بشتون، اتجهت الأنظار إلى طالبان. وفعلاً تنامى عددهم مع تعاظم العنف فحين أحكموا، في 1995، قبضتهم على 12 من أصل 31 اقليماً، طبّقوا الأمن وفرضوا أيضاً أشد تأويلات الشريعة تزمتاً. وقيل يومها ان 20 ألف أفغاني ومئات الباكستانيين من المدارس تدفقوا عبر الحدود لينضموا، معظمهم بين ال14 وال24 سنة، عاشوا في مخيمات اللجوء ودرسوا في المدارس التي زوّدتهم ثقافةً دينية أولية وحَرفية، دون أية فكرة عن العلوم والرياضيات والتاريخ والجغرافيا. بل من دون أية معرفة بتاريخ بلدهم واثنياته وجماعاته. ولأنهم لم يعرفوا بلدهم في حالة سلم واستقرار، اندفعوا إلى التعلق بطوبى خلاصيّة يحثّهم على طلبها فقرهم الشديد. وإذ منحتهم الحياة مَلَكة وحيدة هي القتال، فصلتهم كلياً عن المرأة فلا عاشوا قريباً من أم أو أخت، فيما لقّنهم ملاتهم أن النساء اغراء شيطاني. وبسهولة نسبية حاربوا وغلبوا البشتوني حكمتيار، لكن مواجهاتهم بدت أصعب مع الهزارا الشيعة ورستم الأوزبكي، وخصوصاً مع مسعود الطاجيكي. وكان دور المخابرات العسكرية الباكستانية مهماً إذ دعمتهم سياسياً وعسكرياً في معاركهم كلها. هكذا أسقطوا مدينة هرات الناطقة بالفارسية والتي ظلت مهد الحضارة الأفغانية، رغم تعرّضها لنكبتي المغول والسوفيات. وعوملت هرات كأنها بلد محتل وفُرضت عليها إدارة بشتونية يُعييها التفاهم مع أهلها بلغتهم. أما حصار كابول عشرة أشهر فلم يصدّع دفاعاتها، بحيث دعا عمر مئات رجال الدين والملات من أطراف البلاد إلى قندهار حيث حصل على بيعتهم ك"أمير المؤمنين". لكن هذا لم يحصل من دون مسْرَحَة أداها الرجل الكاره للمسرح، فقلّد الرسول وعمر بن الخطاب تاركاً عليهم ايحاءات تأثيرية بيّنة استثمرها لانتزاع دعوتهم الجماعية للجهاد ضد حكومة رباني. ولئن اتضح العجز الباكستاني عن بناء جبهة ضد كابول، نشأت على الأرض جبهة ضد طالبان مع تسلّم حكمتيار رئاسة الحكومة. ومجدداً كان الدعم الكثيف والاستثنائي رداً على التطور الأخير، ما سمح للطالبانيين بأن يتقدموا عسكرياً فيحتلوا جلال آباد، ويزحفوا بسرعة صاروخية على كابول التي اسقطوها في 26 أيلول 1996. ودُشّن النظام الجديد بقتل الرئيس الشيوعي الأسبق نجيب الله بأكثر الطرق وحشية. وخلال 24 ساعة فرضوا أشد المعايير تخلفاً ضد المرأة، ثم ضد الموسيقى والرجال غير الملتحين. واتجه مسعود، الذي انكفأ الى منطقته في البانشير، إلى تحالف مع أمراء الحرب المتضررين. وفعلاً حصلت معارك ضخمة فيها الكثير من الكرّ والفرّ، لكنها لم تفعل غير مفاقمة الألم وتعظيم ظاهرة اللجوء الأفغاني، حتى أمست أعوام 1997-2000 مسرحاً لدم غير مسبوق. فطالبان الذين مضوا يستقدمون أفواجاًَ بعد أفواج من المدارس الباكستانية، استأنفوا حروبهم للاستيلاء على الشمال. وهكذا حلت مذابح همجيّة نزلت بالشيعة خصوصاً، ولكن أيضاً بالطاجيك والأوزبك والبشتون، كما رُسمت خطوط تقسيم واضحة وحلّت سياسة تطهير عرقي. ولئن استمر التأييد الباكستاني الذي لم يقطعه انقلاب برويز مشرّف، عاش النظام عزلةً زادتها الأزمة الاقتصادية تحت وطأة الجفاف المصحوب بتدمير الشمال، مصدر الثروة الزراعية للبلاد. فروسيا وجمهوريات آسيا الوسطى أرعبها دعم كابول للجماعات الإسلامية المتطرفة فيها واعترافها ب"جمهورية الشيشان". وإيران كادت تندفع إلى حرب مع أفغانستان بعد المذبحة التي أنزلها طالبان بالشيعة وتوّجوها بقتل الديبلوماسيين الإيرانيين في باميان. والهند أزعجتها مخيمات تدريب الكشميريين في أفغانستان. وتحت ضغط اللوبي النسائي، انتقلت الولاياتالمتحدة إلى موقف بالغ السلبية حيال طالبان، فيما انكفأت المنظمات غير الحكومية وغادرت البلد. وجاء تفجير تماثيل بوذا معطوفاً على رعاية تجارة الأفيون ليرسم ما تبقى من ملامح الحكم الطالباني. والحال أن المجتمع الأفغاني مجتمع مؤمن الا أنه متسامح، استند تسامحه على الدور المركزي الذي لعبه الأعيان التقليديون والمدارس الصوفية في الإسلام الأفغاني. لكن الشيوعية وجّهت الضربة الدموية لعائلات الإسلام القديم. وخلال الحرب ضدها وجهت المخابرات الباكستانية والأميركية الضربة الثانية بأن همّشته وفضّلت الأحزاب الإسلامية "الحديثة" ذات البناء العقائدي والمركزي حكمتيار ومسعود. وكالت له هذه الأخيرة الضربة الثالثة، حتى اذا باشرت طالبان حروبها صار كل كلام عن التسامح بلا معنى، سيما وقد غرقت كل إثنية في دماء الاثنية الأخرى. واذا بدت معضلة الأحزاب "الحديثة" أنها لم تعترف بالإثنيات مركّزةً على إسلام ايديولوجي جامع تعود بعده إلى اكتشاف الواقع المرير، فالمعضلة نفسها عرفتها طالبان بحدة أكبر. هكذا سعت إلى الدمج والتذويب بحد السيف من دون أن تصدر عن أي من تقاليد الإسلام الأفغاني. فالتأثير الأكبر عليهم جاء من المدارس الديوباندية. لكن "الإصلاح" الذي أراده الديوبانديون، ومن مرتكزاته العداء للهندوس والشيعة والتزمت حيال المرأة، هو ما دفعه طالبان بعيداً جداً. إلا أن قوة الديوبانديين، مثلهم مثل سائر المدارس، تعاظمت كثيراً مع ضياء الحق، قبل ان تعتمدهم وتقرّبهم بنازير. وهذه المدارس المجانية التي تقوم على التبرعات، انتعش دورها الافغاني مع طالبان ممن تخرّج قادتهم منها. ولئن أعفت باكستان طلابها الأفغان من حمل جواز السفر، وفّرت البشتونية الدورانية لحمة أخرى بين طالبان وأساتذتهم على الجانب الآخر. هكذا أمكن تعبئة الطلاب كجيش احتياطي في حروبها، حتى انتقل إسلامها إلى الضفة الباكستانية مهدداً طرقها التقليدية والمألوفة. وفي بدايتها أقامت طالبان قيادة جماعية عبّر عنها مجلس شورى قندهار جامعاً بين النموذج الإسلامي وتقليد "جيرغا" القبلي البشتوني. لكن صناعة القرار ما لبثت أن انعزلت وصارت ديكتاتورية فردية لا تكتم رغبتها في الردّ على فوضى المجاهدين. وتحول مجلس الشورى إقطاعة لعمر والمحيطين به من البشتون الدورانيين، أو القندهاريين، ممن احتلوا غالبية المواقع التقريرية، يصحّ ذلك حتى في حكام الولايات غير البشتونية بالضد من تقليد أفغاني قديم. وبسبب هذا الاستئثار المصحوب بالحروب وتطويع المقاتلين وندرة المال وانعدام مشاريع التنمية، تمرد البشتون الغيلزيون في الشرق كما حصل تمرد في جلال آباد وتذمرات بين الجنود أوحت كلها بانفجار وشيك بين طالبان. واستحال، في هذه الغضون، انشاء هرمية إدارية لأن عمر كان دائم التبديل للمحافظين والحكام، فيما العمل في الإدارات يقتصر على أربع ساعات فقط. وحال التدفق المتواصل من متطوعي المدارس دون بلورة صورة مستقرة للجيش وعمر قائده، فيما كان بعض الوزراء يكلّفون مهام عسكرية تدوم أشهراً يتعطل خلالها كلياً عمل الوزارات، وهذا فضلاً عما فعله إحلال بشتون في المناصب الأساسية من استغناء عن كفاءات قدامى موظفيها. وفي ظل الافتقار إلى موقف من التنمية أو الدستور ساد الارتجال والتخبط، فمال عمر إلى تغليب آراء العلماء القندهاريين على حكومة كابول وظهرت ثنائية عادمة لصنع القرار. وبقي أهم "انجازات" طالبان يتعلق بالمرأة التي أخرجت كلياً من الحيّز العام، فطُردت من العمل والتعليم وروقبت حتى داخل البيت وعوملت أسوأ مما عومل الرقيق. وتولى البوليس الديني تفعيل آراء عمر عبر قرارات ما أنزل الله بها من سلطان. وقد تجاوز البوليس الديني سابقه الشيوعي "خاد" بأن استخدام آلاف المخبرين الموكلين، أساساً، باخفاء المرأة من المشهد العام. وكان بؤس المرأة يتضاعف حين تكون النساء غير بشتونيات لا سيما إذا كنّ من مدينة هرات المتقدمة نسبياً والتي سبق لنسائها أن تمتعن ببعض الحريات. لكن لما كانت النساء من يتولين التعليم في أفغانستان أدت سياسة طالبان إلى اغلاق المدارس وهرب العائلات التي تصرّ على تعليم أبنائها إلى باكستان. بيد أن السياسة الجندرية لطالبان جاءت تتوّج البؤس الذي أنزلته الحروب السابقة بمؤسسة الأمومة، مدمّرةً العائلة، ومبعثرة مناطق السكن التقليدي وتضامناته، ومُحيلة الأطفال جيشاً احتياطياً للقوى المتصارعة. والنقلة النوعية التي أحدثها طالبان هنا، أنها وضعت سياستها الجندرية ضمن استراتيجية محكمة في مناهضة الثقافة، فمنعت وسائل اللهو والتعبير وحرّمت كل احتفاء بالشخصيات الأدبية والميثولوجية، وكذلك الأعياد والمناسبات التقلدية. وإلى تعطيل كل ما يشي بأدنى اختلاف، طاردت الرجال غير الملتحين والمثليين، فيما سدّت جميع أشكال الاتصال بالعالم الذي صمت طويلاً عن مآسي أفغانسان إلى أن جعل التلفزيون الصمت مستحيلاً. ومنذ 1992 تتالت موجات الهجرة ضاربة المتعلمين والمهنيين وصولاً إلى عمال التليفون والكهرباء. وسار هذا التزمت في موازاة تأويل غريب لإجازة الهيرويين إذ الكفّار الأجانب من يتعاطونه، على عكس الحشيشة التي ضُربت تماماً. والحال أن المخدرات التي تزايدت زراعتها مع طالبان، هي التي موّلت اقتصادهم الحربي من غير أن تُفسد قادتهم ممن احتفظوا بنقاوتهم، وكان عمر يبقي مالية الدولة، نقداً ووثائق، تحت سريره. وكانت القوى التي "أسست" هذا الوضع كثيرة: فالمجاهدون استخدموا أيضاً هذه التجارة لتمويل حروبهم وكنز ثروات لأمرائهم. والمافيا الروسية التي بنت مواقع لها ابان الحرب السوفياتية - الأفغانية، تولّت مهام التسويق العابر للحدود. والاستخبارات الباكستانية، ومعها زميلتها الأميركية الكبرى، شجعت الحصول على هذا العائد لتمويل حرب المجاهدين. لكن إذا تحولت المخدرات مشكلة مضبوطة في أوروبا، فإنها في جوار أفغانستان غدت مشكلة مجتمعية عامة. ففي جمهوريات آسيا الوسطى، مثلاً، بات يستحيل وضع موازنات عامة أو بناء إدارات على قدر من الاستقرار. أما أفغانستان، التي تبيّن حجم اعتمادها على المخدرات بعد اغلاق الحدود الإيرانية معها، ومن ثم انسداد باب التهريب إليها وعبرها، فهي البلد الذي غدا متوسط الأجر فيه، عام 1998، ما بين دولار وثلاثة شهرياً. على هذه الخلفية نشأ دور بن لادن مصحوباً بنظرية وثلاثة قرارات. أما النظرية فللجنرال حميد غول رئيس الاستخبارات العسكرية الباكستانية والايديولوجي الإسلامي البارز، ومفادها أن على المسلمين أن يملكوا فيلقهم الأممي، إذ الشيوعيون لديهم فيالقهم والغرب لديه الناتو. وأما القرارات التي اعتمدتها ال"سي. آي. أي" في 1986 فتقول: 1- اقحام ستينغر في المعركة، 2- شن عمليات عصابات في طاجيكستان وأوزبكستان السوفياتيتين يومها ومصدري تموين الجيش الأحمر في أفغانستان، 3- تشجيع انخراط المسلمين غير الأفغان في الجهاد الأفغاني. وبتوسيع أبعاد المواجهة، غدا ما لا يقل عن 100 ألف مسلم راديكالي غير أفغاني على تماس بالجهاد، إما كمقاتلين أو كطلبة في مدارس باكستان، وقد ازدادوا قناعة بأن الجهاد هو الذي هزم موسكو، فلماذا إذاً لا يهزم واشنطن كجزء من مواجهة أممية بلا حدود؟ لكن القصة كانت تتمتها في جمهوريات آسيا الوسطى التي انتظرت طويلاً ايصال ثرواتها من النفط والغاز إلى أسواق العالم. بيد أن استمرار الحروب الأفغانية أعاق المهمة، إذ شكّل المادة والذريعة ل"لعبة كبرى جديدة" تيمناً ب"اللعبة الكبرى" للقرن التاسع عشر. ففضلاً عن الولاياتالمتحدةوروسيا، وجدت إيران وتركيا وحتى إسرائيل نفسها متورطة بهذه اللعبة التالية على انهيار الاتحاد السوفياتي، وهذا فضلاً عن الحكام المستبدين في آسيا الوسطى في بحثهم عما يموّل استبدادهم ويعززه. ولئن سعت كل دولة إلى أن لا تتجاوزها خطوط الأنابيب المنوي بناؤها، بقي الصراع الأفغاني العائق الأكبر، خصوصاً مع تشابك الأعراق والاثنيات، ومن ثم الايديولوجيات الراديكالية، بما يخترق حدود الدول. فإذا عملت الشيوعية الروسية على ترسيم صارم للحدود مع أفغانستان، فإن انهيارها فتح الأفغان على آسيا الوسطى، وآسيا الوسطى على روسيا نفسها. وكانت شركات النفط الكبرى أبرز اللاعبين، فتنافست شركتا "بريداس" الأرجنتينية و"يونوكال" الأميركية، وامتد التنافس إلى طلب ودّ طالبان بصفتها الطرف القادر على انشاء سلطة مركزية. ونظراً للصلة التي تجمع "يونوكال" الى الإدارة الأميركية المهجوسة بإبعاد الأناببيب عن إيرانوروسيا، تورّطت أميركا في مسايرة طالبان غاضّة النظر عن دعم حلفائها الاقليميين لها. وزاد هذا العنصر في دفع الاستقطاب الاقليمي والدولي بعيداً في ظل افتقار واشنطن إلى أية استراتيجية تتعدى محاصرة طهران. وفعلاً استمر الاستقطاب إلى أن تدخلت الحركة النسوية الأميركية بنشاط، ثم كان الصدام الرأسي، في 1997-1998، بين أميركا وبن لادن. والأهم ما كان يتبيّن إذّاك من أن طالبان ليست قادرة على انهاء الحرب وإقامة سلطة مركزية. واستفاد حكم الملاّت من عامل آخر. فهم، على عكس المجاهدين قبلهم، لم تقتصر علاقتهم مع باكستان على مخابراتها العسكرية، إذ لعبوا على تناقضات الأخيرة مع الحكومة والجيش، كما وطّدوا صلاتهم بلوبيي البشتون الباكستانيين ومافيات التهريب. هكذا عجزت إسلام آباد عن تحويل حلفائها "عملاء" لها. والحال أن العكس كان أقرب إلى الحقيقة، خصوصاً مع تصدّع الاقتصاد الباكستاني منذ 1998، سنة بناء القنبلة الذرية. فطالبان أعطت إسلام اباد ما أرادت وهو تدريب الكشميريين، لكنها امتنعت عن تقديم أي تنازل تاريخي كترسيم الحدود أو الاقلاع عن تحريك الرابط البشتوني ولو أنها قدمته في قالب إسلامي. وبتحولها نموذجاً لإسلاميي باكستان وبتسليحهم وتدريبهم، تمكنت طالبان من طلبنة باكستان، لا العكس، فانتهى الأمر بالأخيرة أسيرة طالبان على رغم ما ألحقه ذلك بسمعتها وتماسك مجتمعها وسلطتها واقتصادها. فما عُرف ب"خط الترانزيت الأفغاني"، مثلاً، وقد صار أهم ممر للتهريب في العالم، شكّل أحد أهم دعائم الاقتصاد الطالباني فيما دمّر الصناعة المحلية الباكستانية على يد سلع الاستهلاك الأجنبية المهربة. لكن الرياح منذ 1997-1998 لم تعد تهب في وجهة ملائمة، فقد حصل تقارب إيراني - خليجي بعد انتخاب خاتمي، ودفع تطرف بن لادن جميع القوى الاقليمية إلى التنصل منه، فتأسست رقعة تقاطع اقليمي - دولي حول الموقف من أفغانستان الطالبانية، فيما بدت باكستان الخاسر الأكبر. مع هذا يبقى أن التخلي الأميركي عن أفغانستان بعد 1989 كارثة لا تعوّض. فكيف حين يضاف إلى الدور السوفياتي وأدوار القوى الاقليمية، وخصوصاً إلى التركيبة الأفغانية. فإذا لم تحصل إعادة نظر جذرية بمجمل هذه المواقف انتهت أفغانستان بؤرة تدمير لمنطقتها، بل للعالم، بعدما استُكمل تدميرها هي نفسها على كل صعيد.