أعتقد أنَّ الناس كافة يحبون الحرية ويكرهون القيود. بعضهم يود أنْ يحصلَ عليها وحده دون بقية الناس. قد تسمي هذا أنانية أو ما شئت من الأسماء. واقع الأمر أنَّ هناك من يؤمن ببعض الرؤى المتقدمة، لكنَّه أيضاً يشعر بالقلق من أن يتبناها عامة الناس. أو لعله يقوم بأفعال مغايرة للسائد، لكنَّه لا يرغب في أن يفعلها غيره. يبدو هذا الأمر غريباً نوعاً ما. لكنَّه واقعيٌّ جداً. وله تبريراته. وأظنُّ أنَّنا جميعاً نفعله، أو نعرف من يفعله. خذ مثلاً تلك الأستاذة الجامعية البارزة، التي شنَّت حملات متواصلة على برنامج الابتعاث الجامعي في أوائل العقد الماضي، بدعوى أنَّ المبتعثين صغار في السن، ويخشى عليهم الانجراف وراء الشهوات، إذا تخلصوا من رقابة الأبوين. ومرَّت سنوات قليلة فإذا بنا نسمع أن أبناء السيدة الجليلة يدرسون في الولاياتالمتحدة... كيف يا دكتورة؟... تساءل الناس، فكان الجواب أنَّ أبناء الدكتورة محصنون، بخلاف عامة الناس. وأذكر في سنوات الشباب، من كان يحذّرنا من اقتناء أو قراءة كتب معينة، فلمَّا وجدناها في مكتبته الخاصة، برر اقتناءها بأنَّه يعرف ما ينفع وما يضر. نستطيع القول – بعبارة أخرى – أنَّ الذين يعارضون تمتع الناس بحرياتهم، لا يرونها سيئة تماماً، بل يخشون من تمرد الناس على النظام الاجتماعي، إن لم يكونوا مؤهلين للتعامل مع ظرف الحرية. يرتبط الجدل حول الحرية، بكثير من القضايا الأساسية في حياة الإنسان الفرد، وفي حياة البشرية كلها. ومن هنا أصبحت الآن القيمة العليا بين مجموعة القيم المطلقة، التي لا غنى عنها للحياة الإنسانية الكريمة. ويبدو لي أنَّ الفلسفة المعاصرة تميل عموماً، إلى تقديمها على قيمة العدالة. وكانت هذه تعد القيمة العليا عند قدامى الفلاسفة. ذلك أنَّ غالبية الفلاسفة المعاصرين يرون الحرية شرطاً قطعياً لتنجيز مفهوم العدالة، أي أنَّ العدالة تحتاج إليها، بينما لا تحتاج الحرية إلى أي قيمة أخرى، كي يتنجز مفهومها. إنَّ المكان الرفيع الذي احتلته الحرية في سلم القيم الناظمة لحياة البشرية، هو الذي جعلها محل جدل منذ أن تبلورت الفلسفة وبرزت كحقل علمي مستقل، حتى يومنا الحاضر. وقد أشرت في مقال سابق إلى ما ذكره المفكر البريطاني أيزايا برلين من أنَّ تاريخ الأفكار، سجَّل ما يزيد عن 200 مفهوم - تعريف للحرية، الأمر الذي يكشف عن سعة النقاشات المتعلقة بها والدائرة حولها. الحرية هي المسألة الأولى في العلاقة بين الدولة والمجتمع، والحرية هي الشرط الأهم لتقدم الأفكار وتبلور الإبداع، وهي ضرورة لا يمكن استبدالها للنهوض الاقتصادي، ولا سيما الذي يعتمد على تسخير النتاج الذهني والتقنية المتقدمة. هذه العلاقات الوثيقة لم تحظَ باهتمام في العصور القديمة. ولم تقدر حق قدرها، إلا بعد انفجار التمرد على الكنيسة الكاثوليكية في أوساط المثقفين وأهل العلم، في عصر النهضة الأوروبية. وقد عبَّر عن هذا التحول الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل الذي كتب قائلاً؛ ما لم يترك الفرد كي يعيش بالطريقة التي تحقق ذاته، فلن يكون هناك تقدم حضاري. لن تظهر الحقيقة إلى النور ما لم يكن ثمة سوق حر لتبادل الأفكار. ولن تكون هناك مساحة للإبداع العفوي، للأصالة والعبقرية، لن يكون هناك مكان للطاقة الذهنية، أو الشجاعة الأخلاقية، وأخيراً فإنَّ المجتمع سيغرق في مستنقع التفكير الساكن البطيء. نقلا عن الشرق الاوسط