اجد من الضّروري استصحاب جملة من الإشارات المهمة في سياق النظر والقراءة الباصرة لمنظومة التشريعات المتخصصة التي أعلن عنها الأمير الطموح محمد بن سلمان في مسيرته التطويرية الشاملة للوطن وعلى رأسها هذه الإشارات المهمة: أن القوانين المنظمة لحياة الناس وأحوالهم الشخصية مرنة في الشريعة الإسلامية، وقابلة للتعديل والمراجعة وفق الموجّهات والمقاصد الكبيرة للشريعة، ويمكن الإشارة هنا إلى موقف سيدنا عمر بن الخطاب، في قضية فرض العطاء للفطيم، بعد أن كان محروماً من ذلك، وعدوله عن قراره، كما تروي القصة المشهورة والمتواترة، وفي ذلك ما يكفي مرجعية لإمكانية المراجعة وتقليب المصالح متى اقتضت الضرورة ذلك. خلو الشريعات في المدونة القضائية السعودية من القوانين المتخصصة بشكل قاطع وحاسم، بما يضيق مجال الاجتهاد على القضاة، ويضمن أحكاماً منسجمة للقضايا المتماثلة في أي محكمة كانت. واقع الحياة اليوم غيره في السابق؛ وهو ما عبرت عنه رؤية المملكة 2030 خير تعبير؛ فليست هي برؤية قاصرة على الاقتصاد والتنمية؛ وإنما شاملة لكل أوجه الحياة في المجتمع، مستشرفة به آفاقاً بعيدة، وتطلعات مواكبة للعالم، ناسفة في سبيل ذلك كل القيود والمكبلات التي لا تستند إلى تشريع أو عرف.. ولعل هذا ما أكده ولي العهد بصراحة ووضوح بقوله: «إن المملكة العربية السعودية تسير وفق خطوات جادّة في السنوات الأخيرة نحو تطوير البيئة التشريعية، من خلال استحداث وإصلاح الأنظمة التي تحفظ الحقوق وتُرسِّخ مبادئ العدالة والشفافية وحماية حقوق الإنسان وتحقيق التنمية الشاملة، وتعزيز تنافسية المملكة عالمياً من خلال مرجعياتٍ مؤسسيةٍ إجرائيةٍ وموضوعيةٍ واضحةٍ ومحددةٍ». وفق هذه الإشارات، التي أراها مهمة وضرورية، يمكننا النظر إلى منظومة التشريعات المتخصصة التي أعلن عنها ولي العهد، مثبتاً مرجعيتها إلى أحدث التوجهات القانونية والممارسات القضائية الدولية الحديثة، بما لا يتعارض مع الأحكام الشرعية، وبما يراعي التزامات المملكة في ما يخصُّ المواثيق والاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها، وتمثلت في أربعة مسارات: مشروع نظام الأحوال الشخصية مشروع نظام المعاملات المدنية مشروع النظام الجزائي للعقوبات التعزيرية مشروع نظام الإثبات فمن الواضح أن هذه المسارات الأربعة تتصل بحياة الأسرة السعودية بشكل مباشر، فقد ظلّ غياب التشريعات المتخصصة عن مضابط محاكمنا مبرراً لتفاوت الأحكام، وفق تقديرات القضاة، بما وفّر ثغرات عديدة، ولم تسلم الأقضيات من الشعور بحالة الظلم والاحتقان المجتمعي، بخاصة في حقّ المرأة السعودية في ما يتصل بحقوق المطلقات، والنفقة، والعضل، وغيرها من الأمور الأسرية وهو أيضاً ما أشار إليه ولي العهد بالقول: «عدم وجود هذه التشريعات أدّى إلى تباينٍ في الأحكام وعدم وضوح في القواعد الحاكمة للوقائع والممارسات، ما أدّى لطول أمد التقاضي الذي لا يستند إلى نصوص نظامية، علاوة على ما سبَّبهُ ذلك من عدم وجود إطار قانوني واضح للأفراد وقطاع الأعمال في بناء التزاماتهم». لقد كان ذلك مؤلماً للعديد من الأفراد والأسر، لا سيما للمرأة، ومكّن البعض من التنصل من مسؤولياته، الأمر الذي لن يتكرر ونحن نعيش تحت مظلة هذه المنظومة من التشريعات والأنظمة المقننة والمتخصصة لحماية الجميع. وبالتالي في ترسيخ وتعزيز مكانة المملكة عالمياً. إن هذه الموجة من الإصلاحات التشريعية تأتي والمجتمع السعودي في مسيس الحاجة إلى إطار قانوني وتشريعي منضبط ومنسجم مع انطلاقته المتوثبة على مسبار الرؤية الباذخة؛ رؤية 2030، فهي تتهيأ أهدافاً نبيلة، وتستشرف واقعاً جديداً وضيئاً ومضيئاً، منظوراً في «إمكانية التنبؤ بالأحكام، ورفع مستوى النزاهة، وكفاءة أداء الأجهزة العدلية، وزيادة موثوقية الإجراءات وآليات الرقابة»، بما يمثل «ركيزة أساسية لتحقيق مبادئ العدالة التي تفرض وضوحَ حدود المسؤولية، واستقرار المرجعية النظامية بما يحدّ من الفردية في إصدار الأحكام».. إن المسؤولية المجتمعية كبيرة ومهمة في إنفاذ هذه الإصلاحات، فالمطلوب من كافة الأجهزة الإعلامية أن ترسّخ هذه القوانين في الوعي الجمعي، بحيث يعرف كل فرد حقّه ومستحقه، ويعي كل متصدر للقضاء ضرورة الالتزام بما هو منصوص عليه، بعيداً عن الاجتهادات، الأحكام التعزيرية التي تتفاوت فيها الأقضيات، وتورث الضغائن والشعور بالظلم لما تستبطنه من تقديرات شخصية.. كما يلزم كتّاب الأعمدة بالصحف، والعلماء، وخطباء المساجد التنويه بها، والتركيز على سلامة مرجعيتها الدينية، بما ينفي أي أوهام لدى البعض، ممن يرون في كل جديد «بدعة» بغير أصل، وشبهة ل«هدم الدين»، فيما شهدناه من مخاتلة «الصحوة» المفخخ، فمن الضروري التصدّي لمثل هذه الأفكار النشاز.. فالمحصلة المرجوّة من هذه التشريعات المتخصصة أنها ستكون ركيزة أساسية لتحقيق معايير الحوكمة الحديثة بتعزيز الحقوق المدنية، القائمة على أساس الشفافية والمساواة، بما يرسّخ مبادئ العدالة والشفافية وحماية حقوق الإنسان وضمان سلامة المسار القضائي في ربوع بلادنا الحبيبة. نقلا ععن عكاظ