قُدر لي أن أزور المعهد الوطني العالي للموسيقى - الكونسرفاتوار- في لبنان فرع - عاليه - ، حيث قام الأستاذ (تميم هلال) - مدير المعهد- مشكوراً بتعريفي بأقسام المعهد العالي ، وإعطائي معلومات وافية عن أسلوب الدراسة فيه ، ومراحله الأكاديمية، وعدد طلابه وطالباته -الذين تتدرج أعمارهم من خمس سنوات إلى الثلاثينات من العمر، ويصل عددهم ل 450 طالباً وطالبة -،وخلافه من المعلومات . وقد دُهشت حقيقة عندما علمت أن فرع (عاليه) واحد من اثني عشر فرعاً تمد أذرعها في القطر اللبناني الجميل ،على صغر مساحته الجغرافية ومحدوديتها! والمبنى الجميل المتواضع الذي تحتضنه طبيعة جبل لبنان الساحرة بعاليه، بغرفه البسيطة وإمكانياته البعيدة عن الترف والبذخ ، يؤكد أننا لسنا بحاجة إلى إمكانيات ضخمة ومبانٍ باذخة ومقاعد وثيرة لكي ننشئ معهداً عالياً للموسيقى ، بقدر مانحتاج إلى الإيمان بأهمية الموسيقى كضرورة وغذاء جوهري ومهم للروح ، وكمربٍّ وجداني فعّال وحيوي للذائقة الجمالية للأجيال . فلا شك أن الوعي بالجمال ومواطنه والإحساس به والقدرة على تذوقه وتلمسه ، وتشرُّبه منذ نعومة الأظافر يساهم في تكوين أفراد أسوياء وأصحاء نفسياً يدركون معنى الحياة بأبعادها الوجدانية العميقة الغور . وبالتالي سيساهم هذا الوعي الجمالي في جعل نفوسهم تشف وأحاسيسهم ترهف ، ليدركوا المعنى الحقيقي للحياة وقيمتها ، ويقدروا نعمة وجود الإنسان ، واستنشاقه لأنفاس الحياة في هذا الكون الذي يعبق بالجمال ويصدح بالسحر والموسيقى . فعندما نربي النشء على هذه القيم الجمالية الرفيعة ، نوفر له الحصانة ضد أمراض الكراهية والحقد والتعصب والفرقة والانقسام ، والتي نراها تنخر في جسدنا العربي المنهك . كما نرفع حصانته في وجه من يحاول تجنيده وتحويله لقنبلة موقوتة لا تعبأ بالحياة ولا تعي معناها وقيمتها . من جهة أخرى بتربيتنا للأجيال على حس موسيقي راقٍ ورفيع المستوى ، نحصِّنهم من التردي في مستنقعات الإسفاف الفني والسطحية والتفاهة والتلوث الضوضائي ، والذي يحيط بنا من كل جانب وبات سمة من سمات عصرنا !. من هذا المنطلق حلمت بالمعهد العالي للموسيقى - الكونسرفاتوار- السعودي ، ورأيت بعين المُنى طلبته وطالباته وهم يحملون آلاتهم الموسيقية ، ويعزفون أعذب الألحان . وبذلك ندشن لزمن مختلف ولعلاقة تصالح مع الفنون والموسيقى بوجه خاص والتي طال خصامنا لها ، ونفكك ذهنية التحريم والتجريم للموسيقى التي وصمت حياتنا بالتصحر والجفاف . رأيت بعين الحلم الموسيقى تحط رحالها في ربوع بلادي وتعود من رحلة تهجيرها الطويلة ، ليجد الموهوبون ومحبو هذا الفن موطناً ومتنفساً بين أحضان بلادهم ، يستطيعون بين جدرانه تلقي العلوم الموسيقية أكاديمياً بيسر وسهولة . تزامنت زيارتي لمعهد الموسيقى في عاليه مع قراءتي لإعلان معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور (عادل الطريفي) عن إنشاء مجمع ملكي وأكاديمية للفنون ، ضمن حزمة مشاريع تستهدف تفعيل دور الثقافة في الحياة العامة لتواكب خطة التحول الوطني 2020 حسب صحيفة الشرق الأوسط . عزز الخبر حلمي بانطلاقة جديدة للفنون ونهضة فنية ثقافية أرى المستقبل يلوح بها في أفق بلادنا الحبيبة . وكلي أمل أن يُولى جانب الموسيقى القدر الوافي والكافي من الاهتمام ، لنرى معهداً عالياً للموسيقى -على الأقل كبداية- في المدن الرئيسية من مملكتنا الغالية . ونستطيع الاستفادة بالطبع من خبرات الأقطار العربية الشقيقة التي سبقتنا كثيراً في هذا المضمار كمصر ولبنان ، وأن نستلهم تجربة الشقيقة (عمان) أيضاً في هذا الحقل ، لنشاهد أول دار أوبرا سعودية على غرار دار الأوبرا السلطانية في (مسقط )[email protected] نقلا عن المدينة