"الموسيقى العصرية موسيقى مخدرات وخيانة للإنسان فكرياً وسمعياً وثقافياً". "محمد عبدالوهاب ليس موسيقاراً". "عندما مات عاصي الرحباني اكتشفنا ان الأخوين رحباني هما عاصي الرحباني"... "الموسيقى علم وإبداع قبل ان تكون فناً". آراء لرئيس المعهد الوطني العالي للموسيقى الكونسرفاتوار في لبنان الدكتور وليد غلمية، يعرف انها لا تعجب كثيرين، ويقر بأنها وغيرها سببت له عداوات، لكنه يعبر عن رأيه. هذه المواضيع وغيرها كثير، كانت في صلب الحوار الذي أجرته "الحياة" مع الدكتور غلمية: لمَ تعطي الأهمية في الكونسرفاتوار لمركز بيروت وليس للفروع؟ - مركز المعهد الوطني العالي للموسيقى الكونسرفاتوار الرئيس موجود في بيروت، ويتم عبره التخرج النهائي، إجازة ودراسات عليا. أما الفروع في مختلف المناطق اللبنانية فلا تمنح إلا درجة دبلوم البكالوريا. أما لماذا بيروت؟ فلأسباب عدة: صغر مساحة البلد، ولأننا أردنا ان نتعلم من اخطاء التفريع الحاصل في مؤسسات اكاديمية اخرى، فضلاً عن ان معظم الأساتذة الذين يهيئون الطلاب للشهادات العليا موجودون في بيروت. لذا نحرص على التسلسل الأكاديمي لتكتمل حبكة الدراسة، فلا تكون فضفاضة، خصوصاً في مرحلة الدراسات العليا، إذ يجب ان يبرز الطالب مواهبه عملياً وتطبيقياً. وبيروت هي المكان الأنسب. كيف ترى ارتباط الموسيقى بين الماضي والحاضر؟ وما أوجه الاختلاف؟ - التعريف الموسيقي بالنسبة إلي، او التعريف الشعري والأدبي والفلسفي للموسيقى، هو البعد الآخر للوجود. اما التعريف غير الفلسفي فهو ان الموسيقى ليست فناً، بل علم ومعرفة. وهنا ثمة التباسات كثيرة. كانت الموسيقى في الحضارات القديمة في الشرق ايام الأكاديين والسومريين احد العلوم الثلاثة، ثم انتقلت لتصبح احد العلوم الخمسة لدى الإغريق، ثم احد العلوم الثمانية لدى الرومان، وما زالت علماً في عصرنا الحاضر. فاليوم نرى كلية للموسيقى، مثلما هناك كليات للطب والهندسة والعلوم الأخرى. اما بالنسبة الى العرب، فلم يكن عندهم فن وعلم، بل معارف وصناعات. فاللغة معرفة ترادفها صناعة اللغة، والموسيقى معرفة ترادفها صناعة الموسيقى. لذلك نرى غالبية الفلاسفة وعلماء الحضارة العربية موسيقيين، تركوا رسائل في الموسيقى التي تحولت فناً وبالتالي قد تصبح المعرفة فناً. فعندما تحصل الصناعة في المعارف الإنسانية ويحصل فيها إبداع تسمى فناً. الموسيقى علم وإبداع، وبما انها علم، هي سلسلة متواصلة الحلقات بحسب ايقاعات العصر، وبحسب تطور الإنسان ومشواره في الحياة. مثلاً: إيقاع ابني مختلف عن ايقاعي، وبما انه مني فهو يأخذ من ايقاعي ويضيف إليه أو ينقص منه، وما يبقى مني ممزوج في جيلين، وهذا امر جميل وجيد ويبقى. وهذا ما نسميه تراثاً. والتراث هو العمل الإبداعي الذي مضى بحكم الزمن وبقي. فكل عمل إبداعي يمر بحكم الزمن ولا يبقى، ينساه التاريخ. أكرر، الموسيقى معرفة وفن. فمنذ بدايات الإنسان تعتبر معرفة الصوت بكل تنوعاته، وبالتالي دخول آلات وإيقاعات مختلفة عليها، وهي مرتبطة في ما بينها، ولا يمكن إلا ان تكون كذلك وإلا سيفقد الموروث السابق، ما يجعل من الحال الحاضرة حالاً ثابتة ومستديمة صوتياً وموسيقياً، وهي تخضع في هذا الشأن لما تخضع له المعارف الأخرى. كيف يكون ذلك؟ - كم من الفلسفات النظرية سجلت وكم بقي منها؟ وكذلك النظريات الهندسية والطبية. وهنا نقول ان معرفة الإنسان وتجربته هما اللتان توصلانه، لذلك فالموسيقى هي اشد المعارف تأثراً بتطور الإنسان. مفهومنا للتراث، شرقياً وعربياً، سلبي وسيئ. فعندما نقول تراثاً، هو تراث بالنسبة الى ماذا؟ هل الى المعاصرة؟ لأن التراث والمعاصرة وجهان لعملة واحدة. إذا أزلنا وجهاً فسيعرف الوجه الآخر. إذاً التراث عندنا محسّن ومنسق ومقوى، لكي ننطلق منه الى أمر آخر في حياتنا المعاصرة. وهنا ثمة تنظير كثير نشهده شرقياً وعربياً، بينما التراث الموسيقي الحقيقي موجود في أقصى الأرياف. علام تعتمد المراكز الموسيقية في المعاهد؟ الكفاية ام ماذا؟ وكيف نعرف ان شخصاً ما كفي؟ - كمبدأ عام الكفاية في الموسيقى مثل اي كفاية في المعارف الأخرى، تنجلي مع الوقت. وهي في الموسيقى متنوعة بين المؤلف وقائد الأوركسترا والعازف، ولكل من هؤلاء اختصاص موسيقي. وإشكالية الكفاية انها تحتاج الى خبرة مكتسبة مع الزمن ولا تأتي في سرعة. لذلك فالمعاهد الموسيقية هي الأعلى كلفة مادية بين المعاهد والكليات الأخرى، ويحتاج فيها الإنسان الى وقت ليبرهن كفايته موسيقياً، ولا نستطيع ان نقول عن شخص خلال خمس سنوات أو ست انه موسيقي. على الموسيقي ان يتعلم، وبعد العلم هناك الاختبار والممارسة. والموسيقى تاريخياً أصعب من المعارف الأخرى القائمة على عنصري المبدع والمتلقي. اما الموسيقى ففيها عنصر ثالث هو المؤدي. وأي خلل في المؤدي يشوه العلاقة بين الأثر الإبداعي والمتلقّي، لذلك هي صعبة. ما الفرق بين التأليف الموسيقي والتأليف السمفوني والتلحين؟ - التأليف قد يكون سمفونياً أو رباعياً وخماسياً، وقد يستعمل آلتين، إنما الفرق كبير بين التأليف والتلحين. في عالمنا ثراء كبير في الأغاني الملحنة، والفرق بينها هو الحال والحدث اللذان يريد المبدع ايصالهما عبر النص الكلامي للأغنية. اما الحال والحدث في النص الموسيقي عند المؤلف فهما في الموسيقى الصرف التي يقدمها عبر تنوع الآلات والإيقاعات. التأليف الموسيقي هو الذي يعنى بشأن إصدار الصوت في معادلات تصويتية علمية، فيها الآلة والتوزيع والتلاحم. وهذه ليست عملية شائكة ومستحيلة، لكنها دقيقة جداً تجمع اعضاء تسويقية لتولد منها جسداً حياً اسمه مؤلف موسيقي، اما التلحين فيظهر روعة القصيدة وجمالها. في شرقنا اسماء موازية لمؤلفين موسيقيين عالميين لم تعط صفة عالمية مثل سيد درويش، توفيق الباشا، ومحمد عبدالوهاب. كيف تفسر هذه الإشكالية؟ - ليست إشكالية، ولكن هذا شيء وذاك شيء آخر. ليس عندنا بيتهوفن أو شوبان أو باخ، ولكن قد يصبح عندنا، لأن هؤلاء المؤلفين الكبار انسانيون كتبوا في الموسيقى ولم يكتبوا عنها، كتبوا من الداخل وخرجوا بأعمال حية. نحن في الشرق وصلنا الى مرحلة مهمة كثيراً وضرورية قبل ان ننتقل الى حال التأليف الموسيقي. وفي ما تطرحه، أرى ان هناك مقارنة بفارق نحو ثلاثمئة سنة. إذ ليس في شرقنا العربي مثل هؤلاء الموسيقيين، لأن العمل الذي أبدع فيه العرب هو بسيط جداً يصلح للأغنية الشعبية. وأستطيع ان اعطي مثلاً الأستاذ توفيق الباشا الذي كتب سمفونيتين وخرج من تلك الحال، اما الباقون فلحنوا أغاني. لا أستطيع ان أضع بيتهوفن أو باخ في مصاف عاصي الرحباني او محمد عبدالوهاب وسيد درويش وهو الذي استند الى المادة البسيطة الشعبية وجعل منها تنغيماً جميلاً جداً. وهذا سر عبقريته وعظمته، وقد أوحى لكثر من الملحنين العرب ان يحذوا حذوه. ثمة شعوب فرضت بيتهوفن وتشايكوفسكي وباخ على الزمن. ام العرب فلم يفرضوا اسماء على الزمن، لأن كل ما لديهم مادة استهلاكية. وهذا هو رأيي، وإذا كان الغرب يتغنى بما يملكه من خزانة موسيقية، فنحن عندنا الترتيل السرياني والبيزنطي والقرآني، عندنا تراث أضخم بكثير وعظيم جداً، وما عدا ذلك كله استهلاك شعبي. لذلك لا يستطيع موسيقيونا ان يكونوا مثل بيتهوفن وغيره من الموسيقيين العالميين. هل يتمثل الموسيقيون اللبنانيون خصوصاً والعرب عموماً بثقافتهم أم بالإنتاج؟ - كلمة موسيقار كبيرة جداً. وبالنسبة إلينا كعرب، نستعمل اللفظة في مناسبة ومن دون مناسبة. الموسيقار في الموسيقى كالأديب في اللغة، فكيف يمكن انساناً ان يكون اديباً وهو لا يقرأ ولا يكتب. إذاً كيف يكون الإنسان موسيقاراً، وهو لا يكتب ولا يقرأ الموسيقى. ببساطة لماذا لا نقول إنه ملحن أو مؤلف أو باحث؟ هناك تسميات كثيرة وبكل أسف لدينا لكل شيء ملك: ملك الغناء وملك التلحين وملك البطيخ. وهذا لا يصح. علينا ان نضع كل إطار في مكانه، وإلا فنحن نفقد معاني لغتنا وصوابيتها، لأننا أكثرنا من النعوت والأوصاف، وهذا لا يجوز. انا اعتبر الأستاذ محمد عبدالوهاب اهم المبادرين، لأنه بارد في كل شيء. ولكن لا أعتبره موسيقاراً. عبدالوهاب لحن قصائد وأدواراً. نحن نحترمه ونجله ونقدره، ولكن من دون ان نعطيه ألقاباً لأن الزمن سيأخذها منه. في احدى مقابلاتك الصحافية قلت عن الأخوين رحباني: واحد مهم والثاني ملحن؟ - عاصي مهم. اما منصور فماذا اعطى؟ كنا نقول الأخوين رحباني، فاتضح في ما بعد انهما عاصي الرحباني فقط. والآن توفي عاصي، ومذ ذاك ماذا فعل منصور؟ لذلك نحن شعب لا ننصف ولا ندفع ضريبة على شيء، لا مالية ولا فكرية، فتصبح الأشياء عندنا من دون قيمة. انا الآن اتكلم عبر "الحياة"، وهي منبر خطير جداً، فقد اكتسبت عداوات كثيرة وتلقيت شتائم وحملات من كثيرين على مواقفي. لكنني اتكلم بضميري وواقعي، ولا أجيّر شيئاً لي. انا لا أتحدث عن نفسي، إنما اتحدث عن وضع عام. ما رأيك في الموسيقى العصرية؟ وهل ترى ان لها هوية؟ - بكل أسف هذا النوع من الموسيقى يروج له الإعلام، وهو موسيقى ساذجة وبسيطة ويغلب الإيقاع فيها في شكل صارخ، واعتبره خيانه لأذني، إذا تحدثت طبياً، فالأذن البشرية تستطيع ان تميز اي صوت تسمعه بنسبة واحد على 16 من الثانية، وأكثر ذبذبة صوتية تدخلها في شكل هجومي وعام، لا حاد، هي آلات القرع. عندما نكون في المنزل أو في السيارة أو في الملهى ونسمع هذا النوع من الموسيقى، ونخرج من هذا الجو، نحس ان في رأسنا طنيناً، وهذا يؤثر في الجهاز العصبي البشري. أنا شخصياً أقول إن هذه الموسيقى هي موسيقى مخدرات وخيانة للإنسان فكرياً وسمعياً وثقافياً، خصوصاً عندما رافقت التقنيات الإلكترونية الأصوات. وهذه وجهة نظري وقد اكون مخطئاً، لكنني أعبر عن رأيي.