اطلعت على مؤلف فضيلة القاضي الشيخ/ معاذ المبرد. الموسوم ب: كليات القانون والحكم بغير ما أنزل الله، فوجدت مؤلفه قد اتخذ تمهيداً في بيان وجوب الحكم بشرع الله وحرمة مخالفته؛ مما لا ينازعه فيه مسلم، ومما لا يحتاج السواد الأعظم من المسلمين إلى تعريفهم به؛ لاستقرار حكمه في النفوس والفطر السليمة. ثم إن فضيلته لما تحدث عن التفريق بين الحكم الشرعي والقانوني وقع في خطأ وخطر كبير يكشف ما كان يجنح إليه قبل تأليفه هذا الكتاب، فقال: [الأحكام القانونية الموافقة للشرع قد تحدث في قلب المرء فتنة أشد من فتنة الأحكام المخالفة]. ومعنى هذا: أن فضيلته يرى أن الأحكام القانونية فتنة؛ وإن وافقت الشرع، وعلة هذا الحكم الجائر عنده هي قوله: [لأنه يشعر بأن هذه القوانين الوضعية قد بلغت ما بلغت شريعة رب العالمين]. بهذا التمهيد كشف المؤلف عن غاية كتابه، قبل الولوج في ثناياه، وهذه مثلبة لمن تعرض للتأليف، فمع أن الكتاب بلغ بدون الفهارس والتقريظات 110 صفحات، إلا أن من يقرأ عنوانه وتمهيده لا يحتاج لإكمال القراءة، بعد أن تبين مراد المؤلف من كتابه. لقد أُتيَ المؤلف من خلطه بين الحكم بالقوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية وغير المستمدة منها، وبينها وبين القوانين المخالفة لها، وكان لا بد له من التفريق بين الأنواع الثلاثة من القوانين؛ حتى لا يقع فيما وقع فيه من اللبس والإلباس. لا ألوم فضيلته على هذا الخلط؛ فقد ورثنا عن بعض مشايخنا التحسس من كلمة (قانون)، فلما تقدمت بنا مراحل التعليم قليلاً فوجئنا بإيراد كثير من أئمة المذاهب الفقهية لهذه الكلمة في كتبهم دون تحفظٍ من مشبوه، ولا احترازٍ من مكروه؛ أمثال: القاضي عياض، وابن العربي، والقرطبي، وابن الجوزي، وأبو حَيَّان الأندلسي، وابن قيم الجوزية، وابن حجر العسقلاني رحمهم الله أجمعين، بل إنَّ ابن تيمية يرحمه الله ذكر مصطلح (قانون) أكثر من عشرين مرة في كتابٍ واحد. وليس ذلك فقط بل كان استعمال هؤلاء السلف لكلمة (قانون) للدلالة على دقيق الضبط ومزيد الإحكام؛ بإضافتهم إياه إلى غيره من المصطلحات الأصيلة؛ كقولهم: قانون الشرع، وقانون الفقه، وقانون السلف، وقانون الحكمة الإلهية، والقانون الشرعي. من كل هذا علمنا أنَّ هذه الجفوة - بين مشايخنا وبين هذا المصطلح - حادثةٌ غيرُ مرتكزةٍ على أساسٍ تعتمد عليه؛ سوى أنَّ هناك من التشريعات الوضعية ما عُرِفَ بهذا الاسم؛ فَنُبِذَ الاسم بأكمله لأجلها، ولا شك أنَّ ذاك ليس من حقِّ أحدٍ كائناً من كان، ما دام قد جرى على ألسنة من قبلهم ممن هم خيرٌ منا ومنهم. لما تقدم: لم يلق القانون غير الإعراض والجفاء من طلبة العلم الشرعي في بلادنا، وكأنه رديفٌ لمسمى جناية أو جريمة، قبل التحقق من مادته وطرق استمداده. وإن مما ينبغي معرفته أن مصطلح القانون في عصرنا ينطبق على ثلاثة أشياء: شكلي، ووضعي، وتنظيمي. فالقانون الشكلي/ هو العلم بصياغة القوانين ودلالاتها وأنواعها وتفريعاتها. وهذا القانون ما هو إلا معرفة مسارات مخصوصة وقوالب مرصوصة يمكن أن تُصَبَّ فيها أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المستمدة من قواعد الفقه العامة وضوابطها. وهو بهذا الاعتبار علمٌ لا غنى عنه أبداً، ومن الواجب تعلمه على الكفاية؛ بحيث إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين. وتآليف العلماء السابقين للمتون الفقهية في جميع المذاهب من هذا النوع؛ غير أن القانونيين يرقمون كل حكم، والفقهاء لا يفعلون ذلك. ومن ذلك: ما صدر به الأمر الملكي الكريم عام 1347ه باعتماد كتابي كشاف القناع وشرح منتهى الإرادات في القضاء السعودي. أما القانون الوضعي/ فهو الذي يُعنى بالأحكام المستنبطة من اختيارات البشر المتعارضة مع الوحيين العظيمين (الكتاب، والسنة)، وهذا النوع من القانون لا يجوز لمسلمٍ دراسته إلا على وجه المقارنة؛ لبيان بطلانه وتضاربه ومصادمته لنواميس الله في خلقه، وبنحوٍ من هذا صدرت الفتوى رقم/3532، ورقم/18612 من اللجنة الدائمة للإفتاء. ومثل هذا لا يحتاج مسلم لبيان خطره ولا ضرره؛ فضلاً عن حكمه الذي حشد له المؤلف أقوال 10 من أهل العلم؛ لأنه لا يوجد منه ما يحكم به في محاكم بلادنا، ولا ما يدرس في كلياتنا القانونية بقصد تطبيقه في المحاكم بين الناس من فضل الله، إلا ما كان في مخيلة مؤلف الكتاب عفا الله عنه. أما القانون التنظيمي/ فهو الخاص بالتنظيمات البشرية لجوانب الحياة المعاصرة، وهو علمٌ مبنيٌ على المصالح المرسلة، مثل: أنظمة المرور، والتجارة الدولية، والتصنيع، والبروتوكولات الحكومية، وهي كثيرة لا يمكن إحصاؤها لتجددها بحسب حاجة الناس إليها. وهذا النوع من أنواع القانون من مصلحة المسلمين معرفته وتطبيقه؛ توحيداً للعرف العالمي الذي بدأ يسيطر على كثير من مناحي الحياة، وحتى لا يغدر المسلم الجاهل بها، والمصلحة في معرفتها وتطبيقها لثبوت نفعها، ولأنها جاءت من قومٍ سبروا أمور الحياة - التي هم أحرص الناس عليها، وأعلم الناس بظاهرها - حتى وقفوا عندها فيما بينهم، ولو أردنا الوصول إلى مثلها عبر ذات الطريق لمكثنا خلف القوم قروناً حتى نصل إلى نتائج اليوم، ولو شئنا تطوير ما انتهوا إليه كان لا بد لنا من وجود المراجع الشافية والتجارب الوافية والخبرات الكافية. ولذلك فدراسة هذا النوع من القوانين ما هو إلا اطلاعٌ على ما لدى القوم عبر التاريخ في نواحٍ عديدة من أمور معاش بني آدم، نستطيع به التطور والتطوير؛ ليمكننا اللحاق بهم فيما سبقونا إليه، ولنتبارى في سبقهم فيما نقدر على تجاوزهم فيه. إنَّ الخلط بين هذه الأنواع الثلاثة للقانون هو الخطأ الذي وقع فيه بعضنا؛ ممن لا نشك في عقائدهم ولا في مقاصدهم، بقدر ما نتيقن خطأهم في تصور الموقف، الأمر الذي جعلهم ينهجون نهج العداء والاستعداء لكل ما يَمُتُّ بأيِّ صِلَةٍ لمسمى القانون، ومن أساء فهماً أساء إجابةً ولا شك. وجميع أفراد نوعي القانون الشكلي والتنظيمي مطلوبةٌ لخدمة العامة وَلِصَبِّ نصوص الشريعة في قوالبها اللازمة لها بقدر حاجة العامة إليها. وإني أدعو المؤلف ومن قرظ كتابه إلى مراجعة الكتاب وتوظيفاته، والتنبه للغايات الخطيرة في مضامينه ومآلاته؛ فالمؤمن ليس بالخب ولا بالذي يخدعه الخب. نقلاعن الوطن