} أنجز الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين كتابه "فقه العنف المسلح في الاسلام" في العام 1991 في بيت غير بيته نتيجة تعرضه لعدوان مسلح هو وعائلته في مرحلة فتنة داخلية، وامتنع عن نشر الكتاب حتى لا يُساء فهمه داخلياً في لبنان. أخيراً سمحت عائلة الشيخ بنشر الكتاب الذي اخترنا منه حلقات ثلاثاً، يمكن ان تضيء مفاهيم فقهية اسلامية جامعة في العنف المسلح الذي يشكو منه العالم اليوم ويفتح جروحاً في غير بلد وقارة. تعالج الحلقات الثلاث مسألة العنف المسلح في الاسلام وأبواب مشروعيّته ولامشروعيّته الدينية، من مبدأ الجهاد الى مفهوم قتال البغاة الى مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الى الدفاع عن النفس الى مبدأ الدفاع عن الاسلام نفسه، في دقة فقهية وصرامة علمية ووعي والتزام اسلامي وإنساني، بعيداً من اي اعتبار ظرفي او سياسي خاص. وقد خاض المؤلف في الأدلة من كتاب وسنّة، وفي انجازات علماء وفقهاء، ليصل الى الموقف الاسلامي الواضح في معالجة القضية الكبرى، قضية استعمال العنف المسلح أداة سياسية، والتي كان من سوء الفهم الدقيق لها في اصولها ومواردها الشرعية أن جعلت المسلمين مطارَدين بتهمة الارهاب من جهة، وعاجزين عن التبليغ ونشر الدعوة بغير وسيلة الارغام والعنف من جهة اخرى. وهنا الحلقة الأولى: العنف المسلح المشروع في الشريعة الاسلامية الذي يستهدف القتل او الجرح بالنسبة الى الاشخاص، ويستهدف التدمير بالنسبة الى الممتلكات العامة والخاصة، ينقسم الى قسمين رئيسيين: احدهما: العنف غير السياسي الذي يمارسه الأفراد او الجماعة للدفاع عن انفسهم ضد العدوان غير السياسي جرائم السرقة، والسلب، والقتل العدواني، وما الى ذلك. ولا شك في مشروعيته في الجملة. وهذا التقييد من جهة الخلاف الفقهي فيه اذا استلزم الدفاع قتل النفوس المحترمة من غير المعتدين، وإتلاف الأموال المحترمة. وهذا العنف قد يمارسه المعتدى عليه كما ذكرنا، وقد يمارسه القضاء ضد الجاني، بعنوان: العقاب، او القصاص، او الحدّ. وهذا القسم خارج عن مجال بحثنا بالكلية. ثانيهما: العنف المسلح السياسي، وهو الذي يقوم به فاعله ابتداء لتحقيق هدف سياسي او للتعبير عن موقف سياسي، او يقوم به فاعله رداً على موقف او حالة او عنف سياسي مسلح. ومجال بحثنا يندرج في هذا القسم. وقد بوّب الفقهاء هذا القسم من العنف - بحسب الأدلة الشرعية الواردة فيه - في ثلاثة عناوين، يمكن اضافة عنوان رابع اليها: والعناوين التي بوّبها الفقهاء هي: أ - الحرب الجهادية مع الكفّار الجهاد. ب - قتال البغاة الخارجين بالسيف العصيان المسلح على ولي الأمر النظام الحاكم في الدولة الاسلامية بشرط كون الحكم شرعياً وعادلاً. ج - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مرتبة استعمال القوة المادية المؤدية الى القتل او الجرح او التدمير ضد فاعل المنكر وتارك المعروف. د - الدفاع عن النفس، بتقريب يأتي بيانه. وهذا هو العنوان الذي يمكن اضافته الى التبويب الفقهي في شأن العنف السياسي المسلح المشروع. 2- العنوان الفقهي المدّعى: والعنوان الفقهي العام الذي يدّعي المجوّزون لاستعمال العنف المسلح والممارسون له لجميع المصاديق التي ذكرناها في مجال البحث، او لبعض المصاديق المذكورة هو عنوان الجهاد بالمعنى العام. وقد جوّز البعض لأنفسهم، او زيّن لهم بعض العلماء من رافعي الشعار الاسلامي، ان يطلقوا عنوان الجهاد على عمل مسلح يقوم به حزب اسلامي ضد حزب اسلامي آخر. وقد ادى ذلك الى سقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى من الحزبين ومن الأهالي، ودمار ممتلكات كثيرة بيوت سكنية، ومتاجر، وسيارات، ومؤسسات الخدمة العامة للأهالي المسلمين. وقد أدى هذا الاعتقاد الى ان يسمي كل طرف من المتقاتلين قتلاه شهداء، وقتلى خصومه قتلى، وقد يطلق عليهم تسميات مهينة. ويسمي الطرفان قتلى الأهالي - غير المنتمين الى اي من الحزبين - ضحايا او قتلى. وقد يسمونهم شهداء، وقد تحمل كل ضحية من الأهالي الاسم التكريمي شهيد من قبل الحزب المسيطر على المنطقة التي تنتمي اليها الضحية من حيث السكن. 3- علاقة مجال البحث بهذه العناوين: ان هذا البحث ليس بحثاً في فقه الجهاد، كما انه ليس بحثاً في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر او فقه قتال البغاة او فقه الدفاع عن النفس بل هو مختلف عن كل ذلك، وإن كان فيه شيء من كل ذلك. ولعل تسميته بفقه استعمال العنف لغرض ديني أصوب من أية تسمية اخرى. إن هذا البحث بحث عن الحكم الشرعي لنشاط مسلح يقوم به مسلمون يهدف الى تطبيق الشريعة الاسلامية بإقامة حكم سياسي اسلامي، في مواجهة مسلمين لا يطبقون الاسلام وأنظمة حاكمة لا تطبقه، وفي مواجهة حالة المسلمين - أمة وأنظمة حكم - بعد ان تأثروا بالحضارة الحديثة وأفكارها وبالصيغة التنظيمية للدولة الحديثة. فهذا هو العنف المسلح الذي نبحث عن مشروعيته، وأنه مباح بالمعنى الأعم في المصطلح الفقهي ما يشمل الوجوب، والاستحباب، والكراهة في مقابل التحريم. وهذا الموضوع يختلف عن كل واحد من العناوين التي بوّب الفقهاء العنف المسلح فيها. ويقضي منهج البحث بدراسة كل واحد من العناوين التي بوّبها الفقهاء للعنف السياسي المسلح من حيث علاقته بالعنف المسلح في مجال بحثنا، لمعرفة الحكم الشرعي لكل عنوان من العناوين التي ذكرناها في مجال البحث. الجهاد اتفقت كلمة فقهاء المسلمين على ان الجهاد بالمعنى المصطلح عليه فقهياً لا يكون إلا ضد الكفار الذين لا تربطهم مع المسلمين علاقات تعاهد او هدنة، والذين لا يسكنون او يعيشون بين المسلمين بمقتضى علاقات الذمة او ما يقوم مقامها. وأما المسلمون، وهم كل مَنْ شهد الشهادتين، ولم ينكروا ضرورياً من ضروريات الدين على نحو يستلزم تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم وجحد الرسالة والنبوة، بأن كانوا متأوّلين في انكارهم لما أنكروه، فإن هؤلاء جميعاً مسلمون، وهم جزء من الأمة الاسلامية بالمعنى السياسي - الاجتماعي. ولا يشرع الجهاد - بالمعنى المصطلح عليه - ضد المسلمين بوجه من الوجوه إلا على نحو من التجوز، كما في اطلاقه في كلمات بعض الفقهاء على قتال البغاة، وعلى بعض موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه - كما قلنا - اطلاق مجازي، فلا تثبت في موارد قتال البغاة، ومورد الأمر والنهي احكام الجهاد المصطلح ولا آثاره كما هو مقرر في محله من الفقه. وأما المنافقون فقد جرت سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم على معاملتهم في الشأن السياسي التنظيمي معاملة المسلمين، وثبتت السنّة الشريفة على ذلك، وظواهر القرآن الكريم تقضي به، فما داموا مسالمين يعايشون المسلمين ولا يشهرون عليهم حرباً ولا يبغون فساداً في الأرض، ولا يرتكبون ما يوجب الحدّ فإنهم عوملوا كما ينبغي ان يعاملوا باعتبارهم مسلمين جزءاً من الأمة بالمعنى السياسي - الاجتماعي التنظيمي. والظاهر ممن تعرض لهذه المسألة من الفقهاء القدماء هو ما ذكرنا. قال الشيخ الطوسي في "التبيان"، في تفسير سورة "المنافقون": "واختلفوا في كيفية جهاد الكفار والمنافقين، فقال ابن عباس: جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين باللسان والوعظ والتخويف. وقيل: جهاد الكفار بالسهم والرمح والسيف، وجهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم. وقال ابن مسعود: هو بالأنواع الثلاثة بحسب الإمكان، فإن لم يقدر فليكفهر في وجوههم، وهو الأعم". والظاهر من عبارته ذهابه الى قول ابن عباس: والقول الثاني موافق له، حيث ان اقامة الحدود على المنافقين امر يتساوون فيه مع سائر المسلمين، فكل مسلم صحيح الإيمان صادق العقيدة اذا ارتكب ما يوجب الحدّ أقيم الحدّ عليه. ولم يظهر لنا وجه القول المنسوب الى ابن مسعود، وربما كان يقصد جهادهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجوزاً في اطلاق لفظ الجهاد اذا ارتكبوا معصية ولم يؤثّر فيهم الوعظ، ولم يكف استعمال الشدة، فيكون الإنكار بالقلب الذي يعبّر عنه بالإعراض وإظهار الكراهة والرفض لفعلهم، كما سيأتي تفصيل ذلك. وإلى هذا ذهب الفقيه الراوندي سعيد بن عبدالله ت: 573ه، حيث قال: "... وإنكار المذاهب الفاسدة لا يكون إلا بإقامة الحجج والبراهين، والدعاء الى الحق، وكذا إنكار اهل الذمة". ومن الغريب ما ذهب اليه ابو الصلاح الحلبي 347 - 447ه في شأن المتأولين، حيث قال: "... وإن كانوا متأولين - وهم الذين يتظاهرون بجحد بعض الفروض واستحلال بعض المحرمات المعلومة بالاستدلال كإمامة أمير المؤمنين عليه السلام او احد الأئمة عليهم السلام او مسح الرجلين، او الفقاع، او الجري، او وصفه الله تعالى بغير صفاته الراجعة اليه تعالى نفياً او اثباتاً، او الى افعاله - دعوا الى الحق، ويبيّن لهم ما اشتبه عليهم بالبرهان، فإن تابوا قبلت توبتهم، وإن أبوا إلا المجاهرة بذلك قتلوا صبراً". فإن ما ذهب اليه رضوان الله عليه مخالف لما عليه جمهور الفقهاء من القدماء والمتأخرين، وتشهد النصوص الصريحة من السنّة بخلافه. والظاهر ان الأمر التبس على بعض الفقهاء بين الجهاد بالمعنى المصطلح وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المرتبة الثالثة وهي الإنكار باليد في مرتبة استعمال القوة التي قد تستلزم القتل او الجرح، وسيأتي تفصيل الكلام فيه. ولا فرق في ما ذكرنا من كون الجهاد بالمعنى المصطلح لا يكون إلا ضد الكفار الذين اتفقت كلمات الفقهاء على تحديدهم بمن تقدم ذكرهم، بين القول باختصاص مصطلح الجهاد بالجهاد الابتدائي الحرب الهجومية كما عليه جمهور الفقهاء، او يشمل الابتدائي والدفاعي كما عليه كثير من الفقهاء، او انه يختص بالدفاعي لا غير لعدم تشريع الجهاد الابتدائي بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء كما نذهب اليه. أ - العنف ضد الأنظمة: اذا تقرر هذا فنقول: ان مشروعية استخدام العنف المسلح ضد الأنظمة الحاكمة غير الاسلامية في البلاد الاسلامية، باعتبار انه جهاد بالمعنى المصطلح، يتوقف على الحكم بكفر اشخاص الهيئة الحاكمة وخروجهم عن الاسلام. ومن دون ذلك لا يمكن القول بمشروعية محاربتهم وقتالهم بقصد قتلهم بعنوان ان ذلك جهاد بالمعنى المصطلح. ولكن قد عرفت ان الجهاد بالمعنى المصطلح لا يكون إلا ضد الكفار اهل الكتاب والمجوس والمشركون وهؤلاء الحكام وأعوانهم مسلمون في ظاهر الحال، معترفون بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ورسالته، فلا يمكن الحكم بكفرهم، وعلى هذا الأساس فقد حقن الإسلام دماءهم. ومخالفتهم للإسلام - باعتباره نظاماً سياسياً للمجتمع - من جهة كونهم يتولون الحكم على اساس نظام غير اسلامي من حيث اساس ومصدر شرعية ذلك النظام، ومن حيث القوانين الوضعية التي ينفذها، ليس سبباً كافياً للحكم بكفرهم المجوز شرعاً لجهادهم بالمعنى المصطلح، لأن موقفهم ليس كفراً مباشراً صريحاً، وليس كفراً ناشئاً من تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأن حالهم لا يخلو من احد فروض، فهم: إما معترفون بأن هذا النظام مخالف للإسلام، وهم يحكمون على طبقه عصياناً، او ضرورة بدعوى عدم التمكن من تطبيق الإسلام. فإن كانوا عصاة، فحكمهم حكم العصاة وليس حكم الكفار الذين يجوز جهادهم بالقتل والقتال. وإن كانوا متأولين فإما ان يكون تأولهم استناداً الى دعوى الضرورة، فحكمهم حكم المتأولين وليس حكم الكفار الذين يجوز جهادهم بالقتل والقتال. وإما ان يكونوا متأولين بأن هذا النظام موافق للإسلام، او - على الأقل - ليس مخالفاً للإسلام، فحكمهم ايضاً حكم المتأولين، ولا يمكن الحكم بكفرهم المجوز لجهادهم بالقتل والقتال، كما ثبت عند الفقهاء من ان المخالف للإسلام بتأول بعض احكامه عن شبهة مع التصديق والإذعان بنبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ورسالته، لا يحكم بكفره، بل يجب حواره ومباحثته لإزالة شبهته، كما تقدم ذلك عن القاضي ابن البراج وسعيد بن عبدالله الراوندي. فقد تبين انه في جميع الحالات من العصيان، والتأول بادعاء الضرورة، والضرورة الحقيقية الفعلية، والشبهة ليس في موقف الأنظمة - الخاطئ - او المبرر - ما يستلزم تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم المقتضي للحكم بكفرهم من هذه الجهة. ولو سلمنا جدلاً بكفر هؤلاء الحكام، فلا دليل على مشروعية جهادهم بالقتل والقتال لأجل اقامة الحكم الاسلامي، مع وجود المندوحة للتوصل الى ذلك بالعمل السياسي السلمي، والدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة لتغيير النظام الحاكم ولو تدريجاً الى ما يتوافق مع الشريعة الاسلامية. فتحصل من جميع ما تقدم انه لا وجه من الناحية الشرعية الفقهية لاستعمال العنف المسلح باعتباره جهاداً بالمعنى المصطلح، ضد اشخاص الهيئات الحاكمة الأنظمة على اساس انهم كفار يشرع جهادهم، لما عرفت من عدم امكان الحكم بكفرهم. وهذا لا ينافي مشروعية قتالهم بعنوان آخر غير عنوان الجهاد بالمعنى المصطلح. ولقائل ان يقول: ان حكام الأنظمة مسلمون، ومن ثم فلا وجه لمحاربتهم بعنوان الجهاد بالمعنى المصطلح، ولكن الأنظمة كافرة، فهي مخالفة للإسلام في اساس شرعيتها كون الشعب - حقيقة او ادعاء، مصدراً وأساساً لشرعية السلطة وفي القوانين الوضعية المستمدة من مصادر قانونية غير الشريعة الاسلامية التي تطبقها هذه الأنظمة. وبهذا الاعتبار يجب جهاد هذه الانظمة لإزالتها وإحلال النظام الاسلامي محلها. والجواب على ذلك: ان القدر المتيقن هو كون هذه الانظمة غير اسلامية من حيث كونها لا تعتمد الشريعة الاسلامية مصدراً وحيداً في التشريع القانوني. وأما من حيث اساس شرعية السلطة فإن الخلل فيه هو من حيث عدم لحاظ مبدأ حاكمية الله في الجانب التشريعي للدولة والمجتمع، وأما من حيث اعتبار الشعب الأمة - حقيقة او ادعاء - مصدراً او اساساً لشرعية السلطة، فإن هذه هي دعوى علم الكلام الأشعري والمعتزلي الذي نظر لنظام الخلافة الاسلامي .... والشعوب التي تحكمها هذه الأنظمة شعوب مسلمة تمارس فيها شعائر الاسلام، وحكامها مسلمون، فلا معنى لجهاد هؤلاء - بالمعنى المصطلح - لإدخالهم في الاسلام، وهو الغاية من الجهاد الابتدائي كما نص على ذلك الفقهاء. وكون الأنظمة - بالمعنى الذي حددناه - غير مسلمة غاية ما يقتضيه هو تغييرها بأنظمة على اساس الشريعة الاسلامية، ولكنه لا يلزم باستعمال العنف المسلح بعنوان الجهاد بالمعنى المصطلح لتغييرها بأنظمة على اساس الشريعة الاسلامية. ولا دليل على مشروعية ذلك، بل الدليل على عدم المشروعية قائم. فيتعين العمل لتغيير هذه الأنظمة بالعمل السياسي السلمي والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. وهذا ما يقتضيه نظام الموقف الفقهي كما تقدم نقل كلام الطوسي في التبيان والراوندي كما عرفت. وقد يقول قائل: إن هذه الأنظمة وحكامها تنطبق عليهم مقولة أنظمة الجور وحكام الجور وقد أوجب الفقهاء الثورة عليها وإزالتها. والجواب على ذلك: أولاً: إن موضوع بحثنا الحكام المسلمون في الانظمة غير الاسلامية التي يحكم بها المسلمون يختلف من جهة موضوعية عن انظمة الجور وحكام الجور كما حدده الفقهاء وبحثوا حكم الخروج عليه. وثانياً: إنه على جميع التقادير لا دليل على مشروعية استعمال العنف المسلح بعنوان الجهاد بالمعنى المصطلح. فهنا المطلب الأول: في المائز الموضوعي بين مجال بحثنا وبين انظمة الجور، أئمة/ ولاة/ حكام الجور، وبيانه: إن الموضوع الذي نبحث عن حكمه الشرعي هنا هو استعمال العنف المسلح باعتباره جهاداً بالمعنى المصطلح لتغيير النظام الحاكم بنظام اسلامي. فالهدف من استعمال العنف هو تغيير النظام بتصحيح الاساس الذي يقوم عليه من حيث مصدر الشرعية وتطبيق الشريعة الاسلامية، والمشكلة ليست في الاشخاص وسلوكهم. ومسألة أنظمة الجور وأئمة الجور التي حررها الفقهاء وبحثوا عن حكمها من حيث مشروعية استعمال العنف وعدمها موضوعها اشخاص الحاكمين مع فرض كون النظام اسلامياً - من الناحية الشكلية على الاقل، فالمشكلة ليست في النظام وانما هي في سلوك الاشخاص الحاكمين من حيث كونهم ظالمين لا يطبقون الاسلام بأمانة .... فطبيعة المسألة في مجال بحثنا عقيدية تتعلق بطبيعة النظام السياسي وأساس شرعيته ومشروعيته، ولا تتعلق بسلوك الاشخاص الحاكمين وأسلوب تطبيقهم للنظام الا بصور فرعية وثانوية. وطبيعة مسألة أنظمة الجور وأئمة الجور سياسية فقهية تتعلق بسلامة وأمانة التطبيق الصحيح للشريعة الاسلامية التي هي شريعة النظام الحاكم وأساس شرعيته. والمطلب الثاني: إن المشهور بين الفقهاء المسلمين من الشيعة والسنة هو عدم مشروعية الخروج على أئمة الجور باستعمال العنف المسلح. اما الموقف الفقهي السني فمعروف مشهور، وادعى بعضهم الإجماع على حرمة الخروج بالسيف على الإمام الجائر، وأوردنا كثيراً من كلمات أعلام الفقهاء والمتكلمين السنة في هذا الشأن في كتابنا نظام الحكم والادارة في الاسلام. وخالف المشهور بعض الفقهاء القدماء منهم الإمام ابن حزم الظاهري. ومن المحدثين ذهب السيد محمد رشيد رضا الى انه ليس لأفراد الأمة الخروج على ولي الامر بالقوة، وأما أهل الحل والعقد فيجب عليهم ما يرون فيه المصلحة الراجحة حتى القتال.... ولكن هذا اجنبي عن اطروحة الحركة الاسلامية في استعمال العنف المسلح، لأن حصر حق الخروج بأهل الحل والعقد يعني ان تصحيح النظام يجب ان يتم من خلال الجهة التي تسند اليها "شرعية" النظام، وهي أهل الحل والعقد لا من خارج هذه الجهة، وهم الناس. فإذا كانت الحركة الاسلامية في جانب الخروج بالسيف، وأهل الحل والعقد في جانب عدم الخروج، فلا شرعية لاستعمال العنف من قبل الحركة الاسلامية .... ولكن من أجاز الخروج على أئمة الجور واستعمال العنف المسلح من الشيعة والسنة، فقيَّد مشروعية ذلك بشرط عدم حصول الفتنة وانقسام الأمة أو المجتمع السياسي، وشيوع الفوضى واختلال النظام العام لحياة المجتمع، مع العلم او الوثوق بكون النتيجة هي اقامة الحكم الاسلامي العادل. ونحن نذهب الى ذلك، كما سيأتي بيانه. ولكن هذا كله اجنبي عن محل بحثنا وهو الجهاد بالمعنى المصطلح، فإن من ذهب الى مشروعية الخروج على الإمام الجائر مطلقاً، او ذهب الى عدم المشروعية مطلقاً، او فصل بين حالين باعتبار القيد الذي ذكرناه، فإنهم جميعاً لا يعتبرون هذا الخروج بالسيف - نفياً واثباتاً - جهاداً بالمعنى المصطلح. ب - العنف ضد الاحزاب: وأما استخدام العنف المسلح باعتباره جهاداً بالمعنى المصطلح ضد الاحزاب غير الاسلامية المنافسة المكونة من اعضاء مسلمين او التي يغلب وجود المسلمين فيها، مع اعلان المنتسبين اليها بالاسلام، واعترافهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، فهو غير مشروع بهذا العنوان، لأنهم لا يمكن الحكم بكفرهم المجوّز لجهادهم. وشأنهم في ذلك شأن الهيئات الحاكمة الانظمة موضوعاً وحكماً. بل إن عدم انطباق عنوان الجهاد على مقاتلتهم وقتلهم اوضح وأولى. ومما ذكرنا يظهر الحال في استعمال العنف المسلح بعنوان الجهاد ضد الاحزاب الاسلامية المنافسة، وانه لغني عن البيان حرمة قتلهم وقتالهم، وان ذلك من المحرمات العظيمة والمنكرات الكبيرة تحت اي عنوان من العناوين ولأية ذريعة من الذرائع. والكلام عن الجهاد ضد هؤلاء مما يضحك الثكلى، ولا يتفوه به الا جاهل مضلل، او منافق يريد ان يأكل الدنيا بالدين. ج - العنف ضد الأجانب غير المسلمين في بلاد المسلمين: المراد بالأجانب غير المسلمين هنا هو الأشخاص، والسفارات، والهيئات الاخرى، والشركات التجارية وغيرها الموجودون في البلاد الاسلامية باجازات دخول وإقامة وعمل من قبل حكومات البلاد الاسلامية. ولا تضر اقامتهم وعملهم بالمسلمين، ولا توجد حال حرب فعلية بين المسلمين وبينهم. إن هؤلاء الأجانب كفّار بالمصطلح الشرعي. ودخلوا الى البلاد الاسلامية بمقتضى اجازات دخول وإقامة وعمل من قبل سلطات تمثل البلاد الاسلامية ذات العلاقة. وبهذا الاعتبار ينطبق عليهم ما ذكره الفقهاء جميعاً، وأجمعت عليه المذاهب الاسلامية من كونهم أهل العهد، وأهل الأمان، وأهل الذمة، وهم ليسوا - بهذا الاعتبار - موضوعاً للجهاد قطعاً. وهذا العنوان يوجب شرعاً حمايتهم، وحفظ أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويعصمهم من كل اعتداء عليهم. وهذا واجب على الدولة وعلى سائر المسلمين. ولا شك في أن كل ما دل من الكتّاب والسنّة على وجوب حماية وحفظ من دخل وأقام في بلاد المسلمين من الكفار الأجانب، يشمل الأجانب غير المسلمين الموجودين الآن في البلاد الإسلامية بإجازة من حكومات هذه البلاد. والقول بأن أنظمة البلاد الإسلامية الآن لا ذمة لها، ولا يعتبر عهدها وعقدها شرعاً في أمثال هذه الأمور بالنسبة الى الأجانب غير المسلمين الذين لا توجد حالة حرب فعلية بين المسلمين وبينهم قول مردود، فإن عدم شرعية هذه الأنظمة من الناحية الفقهية لا ينفي صلاحيتها لإجازة دخول واقامة وعمل هؤلاء الأجانب ما دامت عقودها وعهودها سليمة عن ايقاع الضرر بالمسلمين أو تقتضيها مصلحتهم على أساس المعاملة بالمثل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الأشخاص الرسميين الذين أعطوا اجازات الدخول والاقامة والعمل مسلمون فلهم ذمة محترمة عند الشارع تشملها الأدلة الدالة على أن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم. على ان السيرة القطعية من جميع المسلمين قد جرت على تصحيح هذه الذمة وترتيب الآثار التكليفية والوضعية عليها. وهذه السيرة دليل على ان هذه الذمة صالحة للتأثير، ويترتب عليها الأثر الشرعي الوضعي بالنسبة الى الأجانب بصرف النظر عن شرعية أو عدم شرعية النظام الحاكم صاحب الذمة، الذي أعطى لهؤلاء الأجانب اجازات الدخول والاقامة في بلد المسلمين. وكون هؤلاء الأجانب ينتمون الى حكومات تتبع سياسات مخالفة لمصلحة المسلمين، لا يجعلهم مسؤولين عن سياسة حكوماتهم بنحو يبرر قتلهم أو جرحهم أو أسرهم أو مصادرة أموالهم. وهم بالنسبة الى حكومات بلادهم على قسمين: أحدهما: الأشخاص والهيئات والشركات التجارية والصناعية وغيرها الذين يحملون جنسية البلد الأجنبي، ولكن لا علاقة لهم بالنظام الحاكم، وليسوا من أعضاء الهيئة الحاكمة في ذلك البلد. ثانيهما: الأشخاص والهيئات الذين هم جزء من الهيئة الحاكمة، من قبيل أعضاء السفارات والبعثات العسكرية، وما الى ذلك. فأما من كان من الأجانب غير المسلمين من القسم الأول، فلا يجوز الاعتداء عليهم بالقتل والجرح والأسر ومصادرة الأموال. بل يجب الوفاء لهم بالعهد والأمان بحفظهم وحمايتهم، ولا وجه لتحملهم وزر سياسات حكومتهم. وهؤلاء من أظهر مصاديق الاستثناء في الآية الكريمة: ... إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتمّوا إليهم عهدهم الى مدتهم ان الله يحب المتقين. "سورة التوبة، الآية 4". وأما من كان منهم من القسم الثاني. واقتضت مصلحة المسلمين قطع العلاقة مع حكومتهم ومخاصمتها، فإن غاية ما يقتضيه ذلك هو اخراجهم من البلد المسلم بالطرق والأساليب المتعارف عليها في المجتمع الدولي، وفي المهل المتعارفة بحسب المعاهدات والمواثيق الدولية التي تنظم العلاقات بين الدول، والمسلمون في عصرنا ملزمون بمراعاتها من جهة التزامهم بالمواثيق المذكورة وعلاقتهم بمنظمة الأممالمتحدة والمنظمات الدولية الأخرى. ولا يوجد أي مبرر شرعي لمعاملة هؤلاء الأجانب بالقتل والجرح والأسر والضرب، واتلاف الأموال ومصادرتها، في حالة عدم ارتكابهم لجرائم تقتضي معاقبتهم. وفي هذه الحالة فإن مرجعهم هو القضاء لمحاكمتهم والحكم عليهم من دون فرق بين أن تكون سياسة حكومتهم ملائمة أو غير ملائمة لمصالح المسلمين .... ولو كان هذا الأسلوب مشروعاً لمارسه النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون الأولون ولمارسه أئمة اهل البيت عليهم السلام، فعدم وقوعه دليل على عدم مشروعيته. بل لقد وردت الروايات في السنّة الشريفة وتظافرت بما قد يبلغ حد التواتر في النهي عن الغدر والغيلة في حالة الحرب، فيكون النهي عن ذلك في حالة السلم بطريق أولى. والخلاصة من جميع ما تقدم أن هؤلاء الأجانب - بقسميهم - ليسوا موضوعاً للجهاد بالمعنى المصطلح، فيكون استعمال العنف المسلح ضدهم باعتباره جهاداً، أمراً غير مشروع. الموقف من الأجانب غير المسلمين ثم ان تقدير الموقف في هذه الحالة، والحكم بأن سياسة هذه الدولة الأجنبية أو تلك مخالفة لمصلحة المسلمين، وتقدير كيفية الرد على هذه السياسة، وأنه يكون بقطع العلاقات أو المحاربة أو غيرهما، لا يكفي فيه تقدير وفهم شخص واحد ورأيه، ولا مجموعة من الأشخاص ذات هوى واحد ورؤية واحدة، ولا حزب من الأحزاب بمفرده. بل لا بد لذلك من شورى يشترك فيها أشخاص وهيئات متنوعون في رؤيتهم السياسية، من ذوي الشأن والأهلية من المسلمين في البلاد التي يقوم الإسلاميون فيها بالعنف المسلح ضد هؤلاء الأجانب. ويدخل في تشخيص الموقف المناسب من الناحية الشرعية والسياسية جميع الآثار السلبية التي يمكن ان تنشأ من هذا العمل بالنسبة الى المسلمين بوجه عام على مستوى الأمة والمنطقة وعلى مسلمي البلد الذي يبحث وضع الأجانب فيه. د - العنف المسلح ضد الأجانب في بلادهم: وأما استعمال العنف المسلح ضد الأجانب في بلادهم، من قبيل قتل الأشخاص، وأعمال التفجير والنسف ضد المحلات التجارية والمرافق العامة، وخطف الطائرات والسفن وما الى ذلك، فإن الأمر فيه كما تقدم في الموارد الأخرى، حيث انه لا ينطبق عليه عنوان الجهاد بالمعنى المصطلح، فلا يكون مشروعاً بهذا العنوان. وقد نص الفقهاء - استناداً الى الأدلة الخاصة والقواعد العامة - على أن المسلم إذا دخل الى بلاد أهل الحرب بعهد وأمان منهم وهما، في عصرنا، ما تعارف بين الدول من سمات الدخول VISA والاقامة التي تعطيها الحكومات للوافدين الى بلاده من البلاد الأخرى يجب عليه ان يكون ملتزماً ووفياً بالعهد والأمان لهم في بلادهم، ولا يجوز له ان يغدر بهم بسرقة أموالهم واتلافها، فضلاً عن قتلهم أو جرحهم. وإذا اتلف لهم مالاً أو نفساً فهو ضامن لما أتلفه، ويجب عليه أداء الحق الى أهله.... فظهر من جميع ما تقدم ان استعمال العنف السياسي المسلح باعتباره جهاداًَ بالمعنى المصطلح في داخل البلاد الإسلامية وخارجها، في جميع الموارد، غير مشروع. وإذا كان استعمال العنف المسلح في هذه الموارد مشروعاً ولم يكن محرماً في الشريعة الإسلامية، فلا بد ان يكون مندرجاً في عنوان آخر غير عنوان الجهاد بالمعنى المصطلح. وقد قدمنا ان مجال البحث في هذه الدراسة هو العنف السياسي المسلح باعتبار اندراجه في العناوين التي وردت في الشريعة الإسلامية، وهي: الجهاد، وقتال البغاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مرتبة استعمال القوة، والدفاع عن النفس. وننتقل الى البحث عن حكم استعمال العنف المسلح بعنوان: قتال البغاة. غداً: قتال البغاة * الرئيس السابق للمجلس الاسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، وكان وضع مخطوطة كتابه قبل وفاته وانتخبنا منها هذه الحلقات - يصدر الكتاب هذا الشهر عن المؤسسة الدولية للدراسات والنشر في بيروت.