أشار الدكتور محمود الضبع أستاذ النقد بجامعة قناة السويس إلى أن الربيع العربي لم يتحوّل إلى واقع فكري، وإنما هو مجرد أحداث متعاقبة لم يكتب لها حتى الآن الاستقرار على محطة، وأن الروايات التي استلهمت هذه الأحداث في سردها لم ينتج بعد رواية عربية يعتد بها لوقفها عند مرحلة الرصد والسرد لأحداث تمثل معايشة أصحابها لمراحل من هذه الثورات، مستدركًا بالإشارة إلى أن هذا الرصد ربما يمثل مادة ثرية لكتابة إبداعية لاحقًا. كذلك أشار الضبع إلى أن مؤلفه الأخير «الرواية الجديدة» يؤسس لوعي نقدي يمكن الاحتكام إليه بعيدًا عن النظرة الغربية، مشيرًا إلى أن واقع الأدب العربي يحتاج إلى أن نكتب ذواتنا وليست ذواتًا تغريبية، نافيًا أن يكون مؤلفه الجديد مؤسسًا على فرضية نافية للرواية الكلاسيكية من واقع إيمانه بضرورة تعايش الأشكال الكتابية دون إقصاء، غير أنه أكد أن ساحتنا تفتقد لرويات تعتمد على الفكر الفلسفي وتفكيك الوعي.. موقف الضبع من التناقض في مفهوم المثقف، والربط بين الثقافة والإنتاج، وقراءته للساحة الثقافية السعودية وغيرها من المحاور في سياق هذا الحوار.. * لنبدأ من كتابك «الرواية الجديدة».. أي أفكار حرصت على تمريرها في هذا المؤلف؟ الكتاب محاولة لإيجاد طرح يتناسب ومستجدات الواقع الأدبي، ويأتي في صورة دراسة نقدية تحليلية تستعرض المشهد الروائي العربي عبر ما يزيد عن العقد من الزمان وتسعى إلى التأسيس لوعي نقدي يمكن الاحتكام إليه في النظر إلى التطور الأدبي والسردي الروائي منه على وجه الخصوص، في محاولة لإيجاد الطرح المناسب للواقع الأدبي بعد سقوط النظريات النقدية الغربية وعدم قدرتها على الإيفاء بمتطلبات النص الأدبي وصراعه المحموم نحو التجريب والتجديد، وفي ظل عدم وجود المعيار الحاكم لمفهوم الأدبية وإمكانات التجريب في الكتابة الآن، ولذلك أطرح في هذا الكتاب طرحًا نظريًا يتعلق بمحاولة إعادة النقد العربي إلى عربيته المعاصرة، ومحاولة وضع معايير للحكم على عمل أدبي بأنه ينتمي إلى الأدب أو لا ينتمي، وبخاصة أنه تحت مسمى التجريب ظهرت أعمال أدبية قد لا تكون لها على الإطلاق علاقة بالأدب أساسًا، فما الذي يحكم منطق الإبداعية، وما المعايير التي يمكن الاستناد إليها للحكم على عمل تجريبي معاصر ما بأنه ينتمي للنوع الأدبي من عدمه، وبخاصة مع حركة العبور المستمرة في استعارة التقنيات بين الأنواع الأدبية التي قد تصل إلى حد التماهي بينها، فلم تعد الشعرية خاصة بالشعر، وإنما غدا السرد يعتمدها في كثير من الأعمال، ولم تعد السردية خاصة بالقصة والرواية، وإنما يستعيرها الشعر على نحو متسع كما هو حادث، ولم يعد البناء التصويري الحركي في تطوره ملكًا لنوع أدبي دون غيره، وإنما أثرت السينما بتقنياتها لرسم المشهد في كل الأنواع الأدبية على نحو ما هو حادث، وهنا قد يصعب التحدث عن معايير تحكم النوع الأدبي وتفصله عن غيره من الأنواع، ولكن في الإمكان - على نحو مبدئي - اعتماد معايير تفصل ما هو أدبي عما ليس بأدبي، ثم في الإمكان تطوير هذه المعايير لتحديد خصوصية النوع في انفصاله واتصاله مع الأنواع الأخرى، إذ في نهاية الأمر، تبقى للقصة خصوصية تفرقها عن الرواية، وتبقى لكل منهما خصوصية تفرقها عن الشعر، وهكذا، غير أنها خصوصية يصعب على غير المشتغل بتعمق أن يرصدها، وهو ما يواجهه الأدب العربي الآن، وهو ما يمكن التوصل إلى حله من خلال استنتاج معايير خارجة من رحم النصوص الإبداعية ذاتها، ولكن بشرط القراءة الكلية البانورامية، والقدرة على التحليل الكلي وليس تحليل عمل واحد، وهو ما سيكشف لنا بحق عن خصوصية الرواية العربية وجمالياتها التي حققتها ليس استيرادًا من الغرب ونظرياته النقدية ومنطلقاته الفكرية، وإنما من صميم الوعي العربي. تجاور الأشكال * لئن كانت هذه رؤيتك للرواية الجديدة.. فما موقفك من الرواية الكلاسيكية؟ ليس معنى انشغالي بالرواية الجديدة ووضع كتاب حولها، ليس معنى ذلك أني أتخذ موقفًا من الرواية الكلاسيكية، فأنا ممن لديهم القناعة الشديدة بضرورة تجاور الأشكال، وأن الجديد لا يهدم القديم وإنما هناك تحاور دائم بين المراحل التاريخية على مستوى الشكل الواحد وتطوراته، إضافة إلى أن القديم ليس معناه عدم القدرة على الإيفاء بمتطلبات الحداثة والمعاصرة، فهناك بعض الأعمال الكلاسيكية في الرواية العربية تحمل كثيرًا من سمات الحداثة وما بعد الحداثة وبخاصة أعمال نجيب محفوظ وإبراهيم الكوني، وواسيني الأعرج وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان وغيرهم، هؤلاء جميعًا وبخاصة نجيب محفوظ لا تزال نصوصهم تحمل الكثير من المضامين والجماليات التي ستستغرق منا زمنًا طويلًا لقراءتها ودراستها وتحليلها والكتابة عنها، ولا ننسى في هذا الصدد أن الكلاسيكية هي التي أسست لجماليات النوع، وبدون الاحتكام إلى الأساس فلا يمكن الإتيان بجديد. روايات لا يعتد بها * على أي وجه ترى واقع الرواية العربية بعد الربيع العربي؟ الربيع العربي لم ينتج بعد رواية عربية تعبر عن وضعياته، لأنه هو ذاته لم يتحول إلى واقع فكري، وإنما هو مجرد أحداث متعاقبة لم يكتب لها حتى الآن الاستقرار على محطة، أو تبيان ملامح عامة يمكنها أن تشكل المشهد، ومعروف أن الثورات لا تأتي بثمارها في المدى القريب، وإنما تستمر لسنوات، فمراحل ما بعد الثورات تكون أصعب بكثير من مراحل الثورات ذاتها، وكما يقال «الثورة الحقيقية تبدأ منذ لحظة تحقيق الثوار لمطلبهم في إسقاط النظام القديم»، وعليه فليست هناك حتى الآن رواية عربية واحدة - على كثرة ما كتب - يمكن أن يعتد بها في التعبير عن الثورات العربية، وكل ما كتب هو رصد وسرد لأحداث تمثل معايشة أصحابها لمراحل من هذه الثورات، وربما يكون هذا الرصد مادة ثرية لكتابة إبداعية لاحقًا. رواية مستفزة * إذًا.. ما هي الرواية التي تستفز القارئ؟ الرواية تستفز القارئ سلبًا وإيجابًا، سلبا عندما تصدم وعيه الجمالي أو الأخلاقي، مثل الأعمال التي أغرقت في وصف الانحرافات الجنسية، وهي كثيرة في المرحلة الأخيرة من خارطة الإبداع السعودي، أما الاستفزاز الإيجابي فيحدث بفعل البناء الفني مهما كان الموضوع قديمًا، وفي هذا الصدد يمكن الاستشهاد بالروايات التي تداخلت مع التاريخ منذ جورجي زيدان ومرورًا بنجيب محفوظ وانتهاء بكتاب الرواية الجديدة، فعلى الرغم من عدم جدة الموضوع لكن يبقى البناء الفني هو المعيار. تناقض مفهوم المثقف * من منظور تأملك للواقع.. كيف تقرأ التناقض في مفهوم المثقف؟ تنطلق رؤيتي التناقض في مفهوم المثقف أولًا من كشف التناقض في الواقع الأدبي العربي، بين كتابته بوعي عربي وعقلية عربية لها بنيتها وموروثها الثقافي، وبين قراءته بوعي غربي ومعطيات نقدية غربية، فماذا يتبقى من النقد العربي الآن لنقرأ به النص المعاصر بعد أن غررت بنا المناهج الغربية وأوقعت بنا في شكلية ونظرات جزئية، ولذا فلربما يكون النقد الثقافي أحد الممرات التي يمكن لنا العبور منها واسترداد هويتنا الثقافية بالانطلاق من البحث عن التقاطعات الثقافية الكامنة في النص، شريطة أن نفهم النقد الثقافي بوعينا العربي، وليس باشتراطات ومعايير غربية، ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك، هذا ما يتطلب الناقد الموسوعي الذي يجمع بين التراث والمعاصرة من جهة، وبين تخصصه وتخصصات أخرى من جهة ثانية، ومرة أخرى باستقراء النصوص العربية وليس تطبيق وعي نقدي خارجي عليها. أما عن التناقض في مفهومنا عن المثقف ذاته فناتج من أمور ثلاثة، أولهما احتكامنا إلى مفاهيم أنطونيو جرامشي عن المثقف، وهي مفاهيم مرتبطة بسياق تاريخي وظروف سياسية وصراع عسكري يخص إيطاليا، وثاني الأمرين ينتج من ربطنا بين المثقف وبين الفصاحة والبلاغة واللسن، وهي معايير شكلية بحتة، لا تنم بالفعل عن وعي ثقافي، والأمر الثالث ينتج عن الربط بين المثقف والشهادة التعليمية، وهذه جميعًا ليست معايير دالة على المثقف، وإنما هناك أمور أخرى تتعلق بالتمكن من التخصص والإحاطة بتخصصات قريبة وأخرى أبعد، وربط ذلك جميعه بالإنتاج الثقافي ... إلخ. احتياجات الواقع الأدبي * في ضوء ما تقول.. ماذا يحتاج واقعنا الأدبي؟ واقعنا الأدبي العربي يحتاج إلى قراءة واعية مستنيرة تستطيع وضع التصورات العامة لمشهد الكتابة، وتحدد موقعه من الكتابة العالمية، وتستطيع رصد متغيراته من الداخل، ورصد الجماليات الجديدة التي تطرأ عليه، وتستطيع تحليل الأعمال الإبداعية العربية بوعي عربي وثقافة عربية وفكر عربي على نحو يربط بين تراثنا العريض والتطورات التي طرأت على الثقافة العربية في سياق الاتصال والتواصل مع الثقافات الورادة، فلايمكن لأمة الآن أن تنفصل فكريًا أو ثقافيًا عن الوضع العالمي، أما واقعنا الأدبي فلا يحتاج سوى لأن نكتب ذواتنا وليست ذواتا أخرى تغريبية عنا وعن حياتنا التي يجب أن نطورها نحن بأيدينا نحن، فالأدب لا ينفصل بحال عن الحياة، وإنما هو رصد وتسجيل واستشراف للحياة. كما أن واقعنا العربي يحتاج إلى متابعة للكتابة الجديدة دون التحيز لها أو ضدها، فالأشكال كما قلنا تتجاور ولا يهدم بعضها بعضًا، وفي الحياة متسع لكل الاختلافات، والأدب في نهاية الأمر تواصل مهما بدا في ظاهره يمثل تحوّلا كليًّا. ويحتاج واقعنا أيضا إلى مرونة في التلقي دون فرض هيمنة سياسية أو اجتماعية على الأدب وإنما التعامل مع الفن على أنه فن من نسج الخيال، وليس معنى ذلك أن أدعو إلى الخلاعة والخروج بمعناه الأخلاقي، ولكن أدعو إلى الحرية الفكرية دون خدش الحياء، وهذا ليس بجديد على الأدب، منذ كتابات العرب القدامى وحتى يومنا هذا. توجّه عالمي * كيف تنظر إلى الربط بين الثقافة والإنتاج؟ الربط بين الثقافة والإنتاج توجه عالمي، فرضه التطور التكنولوجي ووسائل الاتصال المعاصرة والانفتاح غير المحدود في كل شيء، وهو ما جعل أي ثقافة غير منتجة لا وجود لها حتى وإن كانت مكتوبة، وهذا معناه بقوة ربط الثقافة بالمعلوماتية، وتحولها من مجرد كم من المعارف إلى كونها مستوى من مستويات التداول والقدرة على التطور واستيعاب المستجدات الحياتية، ومن ثم تطور خطابها وقدرته على التواصل مع معطيات العصر. فماذا يعني نقل التراث العربي مثلًا من كونه كتبًا مطبوعة إلى كونه ملفات مقروءة بإحدى صيغ الرقمنة دون أن يكون له حضور فاعل في حياة البشرية.. هل في الإمكان تحويل هذا التراث إلى ربطه بقضايا الحياة الثقافية المعاصرة عربيًا وغربيًا.. وهل في الإمكان وضعه على صفحات الإنترنت بصيغ تسمح بالترجمة إلى لغات عدة تبعًا لاحتياجات المتعامل معه وهو ما سيتيح اشتباك الثقافات من مختلف الشعوب معه.. وهل في الإمكان ربط هذا التراث بمصادر الإنتاج الاقتصادي (اقتصاديات المعرفة) كما هو حادث في العالم الآن.. هنا تتحول الثقافة إلى إنتاج، وهنا يعاد إنتاج الثقافة العربية من جديد. نقلات وقفزات * إجمالًا.. كيف تقيم المشهد الثقافي في المملكة؟ الوضع الثقافي في المملكة لا يمكن الحكم عليه إجمالًا، لكني أستطيع رصد هذا الزخم في الفعاليات الثقافية التي نتابعها عبر وسائل الإعلام وشبكات الإنترنت، مثل الفعاليات الثقافية التي تقام عبر نوادي الأدب السعودية، ومثل المطبوعات والدوريات الثقافية، وما يصاحبها من كتب ومطبوعات في مختلف مجالات الثقافة. أما على مستوى الكتابة الأدبية فمن خلال متابعاتي للأعمال الصادرة في السنوات العشر الأخيرة أستطيع القول بأن الكتابة الإبداعية حققت نقلات وقفزات واسعة خلال هذه السنوات على مستوى الكم (عدد الأعمال الصادرة)، وعلى مستوى الكيف (الموضوع الأدبي) وبخاصة في السرد السعودي واشتباكه مع قضايا لم تكن موجودة من قبل، لكن ينبغي التذكير أنه ما زال هناك في الإمكان تحقيق الكتابة السعودية لمزيد من التقدم، وأقول ذلك حتى لا يتصور البعض أن العدد الكمي كاف لتحقيق الصدارة، فما زالت هناك اتجاهات في الكتابة لا توجد لها أعمال دالة، مثلًا الأعمال الروائية المعتمدة الفكر الفلسفي وتفكيك الوعي، وغيرها من الاتجاهات العربية والعالمية.