المقال السابق كان كمدخل وإشارات عامة، وفي هذا الجزء سيكون الحديثُ أَكثرَ تَخصصاً، مع المحاولة الحفاظ على الطابع العام. الفَوَارِقُ بين الإدارة الإعلاميّة للقَنَوات الفَضَائية من جهة، وبين إدارة غيرها من المشاريع والمؤسسات، هي فَوَارِقُ جَوْهَريّة ومُهِمّة، وتَتَوَجَّبُ مَعْرِفَتُهَا والإلْمَامُ بها، فقد تكون عند الأخذ بها أو تركها، عناصر فاعلة للنجاح، أو عناصر مؤدّية للفشل ! فليس بالضرورة أن كل إداري استطاع النَّجَاح في مكان (ما)، أو شيخاً كريماً نال من الشهرة أَوْسَعَها، أو صَاحِبَ ثَرَاء مُدَّ له في ثَرَاءِه، أَو شَخْصية اجتماعية نَجَحَت في لفْتِ الأَنْظَار إليها، ليس بالضَّرورة أنَّ هؤلاء كلهم سَيَنَالون ذَاتَ النَّجاح والصَّدَارة، في إدارتهم للقناة الفضائية، إذا لم يكونوا على مَعْرفة فِعْلِية -وليس تَعبيراً فقط- بالفَوِارِق الجَوْهَرِيّة ! بل قد يحصل العَكس، فَيُمْنَوْنَ بالفَشل، ويُصْبِح تركةً ثقيلة على عَوَاتِقِهم، والواقع شاهدٌ بهذا ! أجدُ أنَّ أقْرَب فلسفة عمل لبيئات القنوات الفضائية هي فلسفة التسويق. فأنت تسوّق لشاشتك وما تحتويه، تسوّق لأفكارك وقِيَمِك، تسوّق لمُذيعِيك وضيوفك، تُسوّق لاسمك الإعلامي وتوظِّفه بالشكل الصحيح. لذا! من المُهم الانطلاق من هَذه الفِكْرة وتَحْويلها إلى آليَّات عَمَل، والاسْتِنَاد إليها في عَدَد من المحاور المهمّة مثل: اسْتِقْطَاب الفكْرة البَرِامجيّة، واستقْطَاب الضَّيْف الجَمَاهيري، واستقْطَاب المُذِيْع البَارِع، وحتى الشَّرَاكَات مَع الجِهَات والمُؤَسَّسات الحُكوميّة والخاصَّة، يجب أن يكون التعامل في كل هذه المحاور وغيرها من منطلق وقواعد وآليات تسويقية، لا يُغَيِّرهُا إلا تَغَيُّر قواعد السُّوق الإعلامي. لقد فَرَضَ السُّوق الإعلامي التَّنَافسي قَوَانينهُ الجَديْدَة، وكانت السَّنَوَات السَّبع الأَخيرة تقريباً، كَفِيْلَة بتشكيل تِلك القَوَانين الجَديدة وصِيَاغَتها، وإدارة القَناة الفَضَائية خَارِجَ القَوَانين العَامَّة للسَّوْقِ الإعلاميّة، هي إدارةٌ في وجْهِ الطُّوفَان، والأَخْذ بها، واسْتِيْعَابها، وتَحْويلها إلى خطَّة عَمل، هو القَرَار الصَّحيح، بَعِيْداً عن المَفَاهيم الرَّاسخة لبِيْئَات عمل سابقة ! يُحَاول الكَثيرون مُحَاكاة المَشَاريع الفَضَائية النَّاجِحَة حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّة! غير مُسْتَحْضِرينَ في مُحَاكَاتِهم ظروفاً كثيرةً، الزَّمَاني منها والمَكَاني، وما يَتَعَلَّقُ بالبِيْئَةِ، والأَشْخَاص، وأشياء أُخرى كثيرة. بل يَعْمَدُ بَعْضُهم إلى اجْتِزَاءِ ما يَرُوْقُ له من عَنَاصر النَّجاح، دون النَّظَر إلى عناصر أخرى غيّبها عنه ضَعْفُ وَعْيه الإعلامي! إنّ التّركيز فقط على الشَّاشة ونجاحها، مهم وإيجابي، ويقلّ عنه التّركيز فقط على الأداء الإداري للقناة، وهو كذلك شيءٌ رائعٌ وجميلٌ وإيجابي، والنّجَاح الحَقيقي هو المَزْجُ بين الأول والثَّاني، وهذا ما يُخْفِقُ فيه للأسف البعض. السُّؤال الذي يستحق الطَّرح في هذا المقام: مَنْ يَخْدِمُ مَنْ؟ الشَّاشَةُ أَم الإدارة؟ الإجابة على هذا السؤال بدهيّة وهي: أنّ الإدارة في خدمة الشَّاشة، لكن من الأمَانَة أنّ نُشِير إلى قنوات كان الهدف من نشْأَتها أنْ تكون الشَّاشة في خدمة الإدارة وشُخُوْصِهَا، وهي في عِدَاد القَنواتِ المُحَلّقَة في فضاءنا. الانطلاق من محور (الإدارة في خدمة الشاشة) هو عنوان حديثي الثالث في هذه السلسلة إن شاء الله تعالى.. مستشار إعلامي. [email protected] - - - - - - - - - - - - - - - - -