هذه المقالة مكملة لمقالتين سابقتين في صحيفة ''الاقتصادية'' بعنوان ''مصارحة علنية'' و''.. واتفق الطرفان''. يجب أن يخفف القطاع العام من الاستمرار في نهجه السابق في الاستثمار في التجهيزات الأساسية والتحول إلى الاستثمار في القطاعات الإنتاجية المباشرة ذات الجدوى الاقتصادية بالمشاركة الفعالة مع القطاع الخاص. وعبارة الجدوى الاقتصادية يجب أن تحسب بطريقة ما يسمى باقتصاد الرفاهية welfare economics، وليس بطريقة ماسكي دفاتر الحسابات فقط (وعلم المحاسبة بريء منهم)، إذ إن هذه الطريقة تأخذ في عين الاعتبار كل المؤثرات الخارجية Externalities الإيجابية والسلبية المادية وغيرها حين يستثمر في أي مشروع. ومن أجمل الأمثلة على ذلك مصنع الأسمنت الذي بني في شمال جدة في السابق. ذلك المصنع الذي كان مربحا من الناحية المادية لكنه أصبح مصيبة حين توسعت جدة شمالا وفعلت خيرا الدولة حين نقلته، فالتأثير السلبي الذي نتج عن موقعه الخاطئ كان يجب أن يحسب كجزء من التكلفة قبل الشروع في بناء ذلك المصنع. وفي الجانب الآخر لتأثير خارجي إيجابي مثال منتزه وبحيرة سعد شرق الرياض والذي نتج بطريقة غير مباشرة من خلط مياه التحلية بمياه الآبار من حقل الوسيع. ولتقدير فائدته الترفيهية ماديا يستعمل التسعير الظلي Shadow Pricing وبعد هذه الحسابات تتضح الصورة أكثر من ناحية الجدوى الاقتصادية. ولنتذكر أن تحويل عامل عاطل إلى عامل منتج لا يفيد نفسه فقط بل أفراد عائلته ومجتمعه ويجب أن تحسب هذه الفوائد الإضافية حين دراسة جدوى تدريبه وخاصة تكلفتها. فليس التقدير الأولي المادي وحده هو المؤشر الفصل للجدوى من عدمها. والتنمية Development لا تعني النمو Growth فقط بل هي أشمل من ذلك. ومن أهم وأجمل وأنبل صفاتها الاستثمار في العنصر البشري، الثروة الحقيقية الدائمة للأمة. حقا إن يدا واحدة لا تصفق مهما قويت وكبرت. إذن لا بد من المشاركة الصادقة الفعالة بين القطاعين ولو حتى على مستوى المشروع من أجل زيادة الخير لنا جميعا. وإن المرء ليعتصر ألما وحسرة حين يلاحظ أن الكثير من الطاقات المنتجة والفرص الاستثمارية المتاحة لم تستغل أو لم توظف بطريقة أكفأ. إن المملكة القادرة على تنظيم وإدارة أكبر تجمع بشري في العالم في مكان واحد في يوم واحد وفي ساعة واحدة بسواعد أبنائها لقادرة على تنظيم نقل مدرسي جيد يخفف من عناء الطلاب وغيرهم والازدحام في مدن المملكة. وإن بلدا قادرا على التطوير السريع في مرفق مثل الجوازات والأحوال المدنية لا تنقصه الدبرة لتحسين خدمات الطيران المدني في داخل المملكة. ولا شك أن مملكة استطاعت أن تنشئ واحات التميز المنتجة مثل ''أرامكو'' و''سابك'' و''الجبيل الصناعية''، وكذلك ينبع وغيرها لقادرة بعون الله على التخطيط وتنفيذ مشاريع إسكان جميلة لدفع عجلة التنمية إلى الأمام والتخفيف بالذات عن كاهل المواطن من مصاريف السكن. ولا شك أن السعودية التي تملك تقريبا ألف بليون (مليار) ريال فائضا فوق كل حاجاتها من غطاء للعملة وتكلفة الاستيراد لسنة واحدة لقادرة على إيجاد الوسائل والمشاريع بالمشاركة مع القطاع الخاص لتوظيف هذه الأموال من أجل رفع كفاءة خدمات بعض القطاعات مثل الصحة والتعليم والبلديات والمواصلات... إلخ ودعنا نذكر محترفي الشك والريبة والحسد أن هذا التقصير أو ذاك ليس نتاج مؤامرة داخلية أو خارجية بل ناتج عن عدم كفاءة الأداء منا جميعا. لقد وصلت تكلفة عدم كفاءة الأداء وخاصة في القطاع العام إلى مستوى عال أعاق وسيعوق بشكل مخيف مستوى التنمية في المملكة، ولن يستطيع المجتمع عامة والاقتصاد خاصة تحمله إن استمر فترة أطول. وفي هذا الزمن المليء بالأطماع الدولية المتصفة بالخبث السياسي ما لنا إلا أن ندعو أن تبقى السعودية مرفوعة الرأس لا علامة عجرفة وازدراء لأحد بل علامة شكر وعرفان لله الواحد الأحد الذي وفقها في مسيرتها التنموية، التي رفعت المستوى المعاشي للفرد وصانت كرامته. نقلا عن الاقتصادية