يبدأ «اليوم» في التقويم «القمري» أو «العربي»، أو «الإسلامي» بغروب شمس اليوم السابق وينتهي بغروبها في الغد. ويبدأ «الشهر» فيه بغروب القمر بعد غروب الشمس في أول ليلة من الشهر وينتهي بغروبه بعد غروبها في آخر يوم منه. والمشكل في تحديد بداية الشهر في هذا التقويم صعوبة التحقق من غروب القمر بعد غروب الشمس. ذلك أنه يَلزم عن إمكان غروب القمر قبل غروب الشمس، أو قبيل غروبها، أو معها، أو بعدها بقليل أو كثير التأكدُ من توقيت الغروبين ليبدأ الشهر الجديد أو ليكون اليوم التالي إكمالا للشهر السابق. وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم بداية شهر رمضان ونهايته بأن يشهد بعض المسلمين برؤية الهلال بعد غروب الشمس رؤية صحيحة، وهي الطريقةُ الطبيعية المباشرة المتوفرة لعامة المسلمين. ويرافق استخدام هذه الطريقة منذ صدر الإسلام إلى الآن كثير من النقاش عن صحة رؤية الشهود من عدمها. وألجأ ذلك بعضَ المسلمين قديما إلى الاستعانة بالحساب الفلكي لرصد الهلال بعد غروب الشمس. وأنجز علماء الفلك المسلمون القدماء تقاويم حسابية دقيقة حددوا فيها بدايات الأشهر القمرية. لكن أكثر الفقهاء ظلوا يرفضون هذا الخيار حتى الوقت الحاضر. ومن المحاولات الحديثة لتحديد بداية الشهر الهجري تقويمُ أم القرى، المعتمد في المملكة. وهو يعتمد على إحداثيات الكعبة المشرفة. والغرض منه أن يكون تقويما لتسيير الأعمال الحكومية، كاحتساب سنوات التوظيف، وصرف الرواتب، والتقاعد وغير ذلك. وقد مر بأطوار متعددة حتى استقر أخيرا على الاعتماد على معيارين، هما: -1 أن يحدث الاقتران قبل غروب الشمس عن أفق مكةالمكرمة، و-2 أن يمكث القمر في أفق مكةالمكرمة بعد غروب الشمس ولو للحظات. ويوصف هذا التقويم بأنه «هجري» لأنه يحدد أوائل الأشهر القمرية الهجرية ونهاياتها للأغراض الحكومية السابقة، ويُنسب إلى مكةالمكرمة لإضفاء ما يُشبه القداسة عليه. ومع هذا يوصف بأنه «مدني»، أي أنه يحدد بداية الأشهر القمرية بالحساب الفلكي لا الرؤية، ولا يُستخدم لتحديد بدايات أشهر العبادات الموسمية ولا نهاياتها ولا المناسبات الدينية عموما. لكنه يعتمد، من ناحية أخرى، في توقيت مواعيد الصلوات في مدن المملكة. واللافت للنظر أن الهيئات الدينية الرسمية في بلادنا لم تعترض على الطريقة التي يُدخِل بها هذا التقويم الأشهر الهجرية باستخدام الحساب الفلكي! وربما تَعتذر عن ذلك بعدم استخدامه في إهلال أشهر العبادات الموسمية وكفى. لكن هناك كثيرا من المعاملات التي تؤكد النصوص الكريمة على تواريخها كعدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها وصيام عاشوراء وصيام الأيام البيض، وهي كلها تُحتسب الآن بهذا التقويم «المدني»! ويمكن أن تنشأ مشكلات عدة أخرى عن تقويم أم القرى. ومنها أنه يبدو أن المحكمة العليا لا تستقبل من يتقدم بالشهادة لرؤية الهلال إلا إن قال هذا التقويم إنه سيكون في ليلة الترائي فوق الأفق. وهذا الأفق هو أفق مكةالمكرمة، لكن المبادرين بالشهادة برؤية الهلال يأتون دائما من المنطقة الوسطى التي ربما يكون الهلال الذي يبقى بعد غروب الشمس في أفق مكةالمكرمة قد غرب فيها. ولا يبدو أن المحكمة الموقرة تقيم اعتبارا لهذا الوضع. وهي تصدر قراراتها وكأن أفق مكةالمكرمة أفقٌ للمملكة كلها. ويفاقم هذه المشكلة رأي الشيخ عبد الله بن منيع، عضو هيئة كبار العلماء، بأن الله سبحانه وتعالى ربما ميز بعض الناس بقدرات بصرية تفوق قدرات غيرهم، وهو ما يجعل المحكمة العليا تقبل شهادات المبادرين بالشهادة لأن الهلال «فوق الأفق»(!)، ولأن هؤلاء «شهود عدول»، ويتفوقون على الناس بقوة أبصارهم! ويُدخٍل هذا التقويم الأشهر القمرية بطريقة متسرعة أحيانا إعمالا لمعياره الثاني. وهذا ما حدث في إدخاله شهر محرم 1435 ه. ويقول الدكتور حسن باصرة، أستاذ الفلك في جامعة الملك عبدالعزيز، في تدوينة نشرها المشروع الإسلامي لرصد الأهلة في1435/1/7 ه، عن ذلك: «يشير غروب الشمس وهي في حالة كسوف جزئي إلى أن جزءا من القمر كان أمام الشمس وأنهما غربا سويا (بتفاوت بسيط بين مركزي قرصيهما) أي أن الحافة السفلى لقرص القمر التي تمثل الهلال المطلوب ترائيه لدخول الشهر (كانت) تحت الأفق قبل غروب قرص الشمس تماما، مما يؤكد عدم وجود هلال للترائي على الأفق الغربي وأن يوم الإثنين مكمل لشهر ذي الحجة». ويعني هذا كله أنه لا يصح أن يسمى تقويم أم القرى تقويما «هجريا» لأنه لا يُدخل الشهر بالطريقة المنصوص عليها شرعا. فهو «تقويم مدني» بمعنى أنه غير مرتبط بالنصوص الدينية بقدر ارتباطه بالحساب الفلكي. وهو مساو في ذلك للتقويم الميلادي من حيث اعتباطية تحديده للشهر. ولا أجد حرجا في الاقتراح بأن يوصف بالتقويم «العلماني»، وهو الوصف الأقرب إلى الدقة لأنه غير معني بالجانب الشرعي في إهلال الأهلة إطلاقا! والسؤال الأهم هو: كيف يمكن أن تقبل الهيئات الدينية الرسمية في بلادنا أن يرتبط هذا التقويم «العلماني» بأقدس مكان في الإسلام؟ وكيف ترضى به تقويما لتحديد أوقات كثير من العبادات والمعاملات الشرعية؟ وإذا أردنا أن يكون هذا التقويم «شرعيا» حقيقيا فلابد من إصلاحه كالتالي (وكنت تقدمت بهذا الاقتراح في مقال «التنسيق المستحيل»: -1 أن يغيَّر المعيار الثاني ليحدد بداية الشهر بأن يكون ارتفاع الهلال فوق أفق مكةالمكرمة بعد غروب الشمس على سبع درجات في الأقل. وهذا ضروري ليكون الهلال «فوق الأفق»، لا في مكةالمكرمة وحسب، بل في المملكة كلها. -2 أو أن يتخذ أفق الدمام مرجعا لإهلال الأهلة لوقوعها شرق المملكة، وألا يقل ارتفاعه عن ست درجات. ذلك أنه إذا مكث في أفق الدمام فترة فسيمكث حتما في المناطق التي تقع غربها أطول من تلك الفترة. أما أخذ أفق مكةالمكرمة من غير أن يحدد ارتفاع الهلال بسبع درجات فيعني أنه ربما يمكث في أفق مكة لكنه يكون قد غرب عن أفق المناطق الشرقية من المملكة. ومما يجب أن يلاحظ أن الهيئات الدينية تقول إن لكل بلد مطلعه، لكنها لم تلحظ أنها تأخذ أفق مكةالمكرمة مطلعا للمناطق التي ربما يكون الهلال قد غرب فيها قبل الشمس أو معها! ذلك أن كون الهلال على درجة منخفضة في أفق مكةالمكرمة، أو أنه غرب قبيل غروب الشمس، أو معها يعني أنه ربما غرب قبل غروب الشمس، أو معها، في المناطق التي تقع شرق مكة. وهو ما يعني أنه إذا صام الناس أو أفطروا بشهادة تأخذ في حسبانها غروبه عن أفق مكةالمكرمة أنهم صاموا قبل دخول رمضان وأفطروا قبل انتهائه.