تلتزم المحكمة العليا بالسُّنة النبوية المطهرة في إدخال الأشهر الهجرية التي تتصل بالعبادات الموسمية، ورمضان خاصة. وذلك باعتمادها الشهادة برؤية الهلال رؤية مباشرة، سواء بالعين المجردة أو بالوسائل المقرِّبة. إلا أنه يبدو أن المحكمة الموقرة أخذت في الأعوام القليلة الماضية تستأنس بالحساب الفلكي في حال «النفي»؛ أي أنها لم تعد تقبل شهادة من يشهد برؤية الهلال إذا قال الحساب الفلكي إنه غرب قبل غروب الشمس. ويختلف هذا التوجه الجديد عن سياسة المجلس الأعلى للقضاء الذي لم يكن ينظر إلى ما يقوله الفلكيون اتباعا لرأي ابن تيمية الذي كان يؤنب القضاةَ الذين يتركون شهادة «الشهود العدول» إلى قول «الحاسب الكاذب». وهو يخالف كذلك ما توحي به المحكمة من أنها تتمسك بإثبات الهلال عن طريق الرؤية المباشرة وحدها. كما يخالف الرأيَ الذي كان معمولا به الذي يقضي بأن «عدالة الشهود» هي الشرط الأساس في قبول شهادة من يشهد برؤيته للهلال. ويعني عدم قبول المحكمة شهادة الشهود في حال «النفي» إسقاطا للاقتصار على الرؤية البصرية المباشرة، ووثوقا بالحسابات الفلكية الدقيقة. وما تفعله المحكمة ليس هجرا للسنة النبوية المطهرة، بل سعي محمود للتطبيق الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»، وذلك بالاعتماد على رؤية موثوقة تتوافق مع المعطيات الطبيعية للهلال. ولم تأت المحكمة بدعا في هذا التوجه؛ ذلك أن الاستئناس بالحساب الفلكي في حال «النفي» رأي قديم قال به الإمام السبكي، مثلا، وآخرون. وهو رأي يراه الآن علماء مسلمون معاصرون كثر. وينبغي التنبيه منذ الآن من أن مشكلا ربما ينشأ عن إهلال شوال هذا العام. ذلك أنه إذا طلبت المحكمة الموقرة ترائي الهلال في مساء 29 من شهر رمضان بتقويم أم القرى فذلك يعني أنها تطلب ترائيه قبل أن يحدث الاقتران بين الشمس والقمر الذي سيكون في الساعة 12.50 من صباح الأربعاء الثلاثين من رمضان بتقويم أم القرى. وسوف يفتح هذا الطلب البابَ للمبادرين الواهمين الذين ربما يتجاسرون بالشهادة برؤيتهم له حينذاك! وليس هذا مستبعدا؛ فهذا ما حدث في رمضان 1404 ه الذي بدأ سلسة الاعتماد على الشخص الذي ادعى أنه رأى هلال رمضان، قبل حدوث الاقتران، ثم شهد واهما بأنه رأى هلال شوال في مساء 28 من رمضان بحسب الصيام. وقد أُخذ بقوله في إدخال شوال تلك الليلة وطُلب من المسلمين أن يصوموا يوما قضاء. لذلك فإن إعلان المحكمة بطلب الترائي مساء 29 من رمضان بتقويم أم القرى هذه السنة سيكون سببا في وقوع مشكلة مماثلة. بل ربما يحسن ألا تطلب الترائي مساء الأربعاء الموافق للثلاثين من رمضان بتقويم أم القرى كذلك، وهو الموافق 29 من رمضان بحسب الصيام. وسبب ذلك أن الهلال سيغرب مساء الأربعاء الثلاثين من رمضان بحسب تقويم أم القرى بعد عشر دقائق من غروب الشمس عن أفق مكةالمكرمة. ويعني هذا أن رؤيته مستحيلة بأية وسيلة في مكة وفي أنحاء المملكة كلها. وسيغرب بعد غروب الشمس بثماني دقائق تقريبا في المنطقتين اللتين يأتي منهما المبادرون بالشهادة. ولما كان هؤلاء قد شهدوا في الماضي برؤية الهلال وهو يغرب بعد الشمس بأربع دقائق أو أقل فلا يستبعد أن يشهدوا بأنهم رأوه في تلك الليلة! ولا يستبعد كذلك أن تأخذ المحكمة بشهادتهم الواهمة اتباعا لممارستها بقبول شهادة من يشهد برؤية الهلال لمجرد قول الفلكيين بأن الهلال غرب بعد غروب الشمس بغض النظر عن استحالة رؤيته. ولا يخفى على المتأمل، من جهة أخرى، أن استئناس المحكمة بالحساب الفلكي في حال «النفي» يؤدي تلقائيا إلى الاعتماد عليه في حال «الإثبات» كذلك! ذلك أن قبول المحكمة شهادة الشهود في حال «الإثبات» لا تعود إلى عدالتهم وحدها، بل إلى معرفتها بما يقوله الحساب الفلكي عن غروب الهلال بعد غروب الشمس. ومعنى ذلك أن عدم قبول المحكمة للشهادة في حال «النفي» استئناسا بما يقوله الحساب الفلكي هو قبول فعلي لما يقوله الحساب في حال «الإثبات»: إذ إن قبول شهادة الشهود في هذه الحال مشروط بقول الحساب إن الهلال موجود فوق الأفق! أما القول بالاعتماد على شهادة الشهود في حال «الإثبات» فلا يعدو أن يكون التزاما ظاهريا بشرط الرؤية المباشرة. وقد رأى ملاحظون كثر عددا من الملحوظات على عمل المحكمة الموقرة في هذا الشأن. ومنها الملحوظات التالية التي ستجعل عمل المحكمة، إذا التزمت بها، أكثر انضباطا، وهو ما توجبه مكانتها ومكانة المملكة التي تنسب إليها قراراتها: 1 ألا تطلب المحكمة ترائي الهلال في مساء 29 من الشهر بشكل تلقائي. 2 ألا تطلب الترائي لمجرد قول الحساب الفلكي بأنه سيغرب بعد غروب الشمس بغض النظر عن إمكان رؤيته، كما أوضحتُ في المقال السابق. 3 ألا تعلن عن طلب ترائي الهلال إلا إذا كان على ارتفاع يمكن أن يجعل من رؤيته أمرا متيسرا لكثير من الناس. 4 أما أهم ما ينتظر منها، وسيكون علامة فارقة في تاريخ مشكلة الترائي في المملكة، فهو التوقف عن قبول شهادة الأفراد المعروفين الذين يبادرون بالشهادة وإن لم يكن هناك هلال ليترائى، بل يدعي بعضهم أنه يرى الهلال قبل غروب الشمس! وستظهر النتيجة الإيجابية لهذا التوقف مباشرة من خلال توافق الرؤية البصرية المباشرة، سواء بالعين المجردة أو بالوسائل المقربة، مع الحساب الفلكي من غير تكلف. وبما أن المحكمة الموقرة لا تشرك المواطنين في المعلومات المتصلة بالأهلة فليس أمامنا إلا أن نسأل عن الكيفية التي أثبتت بها دخول شهر شعبان الذي غرب هلاله بعد غروب الشمس ب 38 دقيقة، عن أفق مكةالمكرمة، مساء الأحد 1434/7/30 ه. ذلك أنه على الرغم من هذا المكث فإن أحدا من الفلكيين السعوديين لم يستطع رؤيته من أية منطقة بأية وسيلة، وربما كان أحد أسباب ذلك سوء الأحوال الجوية في مناطق عدة. وهناك احتمالان: فإما أن المحكمة اعتمدت على تقويم أم القرى، أو أنها اعتمدت على رؤية الشهود المبادرين إياهم؟! لذلك كله فإن الشفافية والدقة في عمل المحكمة الموقرة شرطان ضروريان للقضاء على مشكلة ترائي الهلال التي تثار في كل عام من غير أن يجد أحد حلا لها.