أتأمله ونظراته تقفز فوق سطور العناوين الرئيسية للصحيفة، بينما يداه تقلبان صفحاتها على عجل.. «مُذ عرفتك يا زياد وأنت لا تعبأ بالتفاصيل حتى وإن كانت تخصك».. الأسى يدبّ في أرجائي.. ينتشر في صمت.. كالضباب الذي يحوم حول الأشياء فتصبح باهتة.. تنعدم رؤيتها قبل أن تبدأ في الظهور.. أتأمّل لباسه الرسمي الأبيض الأنيق.. كابتن زياد مُساعد طيار.. وفي غضون شهور قليلة وبعد اجتيازه عدد الساعات المقررة في لوائح منظمات الطيران سيصبح قائداً للرحلة وصاحب القرار الأول على الطائرة.. الخواء يسرُدني بتفاصيلي التعيسة في مذكراته.. يغلّفني بردائه.. أجندة مُهملة تتساقط السطور فيها كحبّات رملٍ باردة في ساعة رملية قديمة.. شتان بين من يعلو ويحطم أثناء ارتفاعه كل ما يعترضه وبين من يهوى وصورة أجزائه المتناثرة تستقبله قبل لحظة السقوط.. يغلق الصحيفة.. يخرج من جيبه علبة السجائر.. يشعل واحدة.. يلتهمها وهو يراجع أوراق رحلته القادمة.. أظل مُنكمشة الأطراف في الزاوية التي خلف مكتبه.. تبرُق الكلماتُ داخل عينيّ ثم تخبو سريعاً بين شفتيّ.. لا يبدو الميزان عادلاً أبداً حينما تتساوى في كفّتيه عدد ساعات الطيران المشروطة لترقيته بعدد ساعات الفراغ الكبير الذي أعيشه منذ عامٍ مضى.. أنا وابن خالتي زياد كنا طفلين كفلقتي بذرة واحدة من نسغ الفصيلة نفسها.. انزلقت من حياتنا سنوات الطفولة التي لم نفترق خلالها أبداً.. بعد أن كبرتُ لم أتبنّ أبداً شعوراً بتركه.. تفارقت الأجساد وبقيتْ حكاياتُنا منقوشة على جدران الذاكرة.. كان يومي الأجمل حينما أتت خالتي لتخطبني من والدتي.. كان مجيئها ذلك اليوم أشبه بوثيقة سلام أقرّت فيها بي كزوجة لابنها بعد أن حوّل الصبا لقاءاتنا الطفولية من المسموح إلى قائمة المحظورات.. تخيّلتُ أنني بزواجي منه سأكون تلك الطفلة المُدللة التي تحولت فجأة إلى أنثى تصلح تماماً لحُبّ زياد بعد أن أصبح رجلاً.. لم أتخيّل أبداً أن رجولته ستسحقني حدّ العدم.. أنني سأنقضي تدريجياً.. وأن مساحة اهتماماته ستتسِع لكل الأمور عداي.. تلاشت الأحلام كعشبٍ نديّ امتصّتْ اخضراره صُفرة العطش. يطالع ساعته بنظرة خاطفة.. يعيد ترتيب أوراقه بحرص.. يزج بها في حقيبته.. ألملمُ بدوري أطراف الذكرى، وأجزاؤها تعوي في أرجاء الغرفة.. خذلانٌ كبير أن تصفعك تلك التفاصيل بأنها قيد الوجود بعد أن أوشكت معالمها على الاندثار.. يطفئ سيجارته.. يحمل حقيبته.. يُلقي نظراتٍ سريعة إلى المرآة التي بقربي.. يعدّل ربطة عنقه.. يسير بخطى واسعة نحو الباب.. يتصاعد رنين هاتفه النقال.. يجيب بقائمة تعليمات لا تختلف كثيراً عن تلك التي ترمقني بنظراتها الحانقة حين تقع عيناي عليها وأنا أنظم أوراقه.. كأنها تصفعني بعدم أحقيّتي في قراءتها.. لمسها أو حتى الاقتراب منها.. يغلق الباب.. تفوح رائحة الوحدة والخواء من جديد.. أقفُ في شرفتي الصغيرة.. أتأمل الليل وهو يبسط سجادة الظلام في الأفنية وبين الشوارع.. يفسح للنجوم ثقوباً صغيرة في الفضاء كي تبعث وميضها الخافت بهدوء.. لطالما تأملتُ وجه زياد حينما يكون نائماً.. لا ينبعث ذلك الصفاء وتلك النصاعة بجلاء من ملامحه إلا في منامه.. لا يعود طفلاً نقياً باسماً إلا في منامه.. لا أخاطبه بنيّاتي الطيبة وعفويتي الساذجة إلا في منامه.. وحالما يصحو نعود غرباء من جديد.. وجهان عابران كأن لم يجمع شتاتهما طريق.. لم تتوحّد الأسماء في لوحِ قدر.. لم تتشابك النظرات تحت سقف لقاء.. أو تتماهى الأرواح وراء نافذة سماءٍ.. عامٌ مضى.. عدتُ في نهايته وحيدة.. فارغة.. كحمامة نسيت هديلها على أغصان ليلٍ طويل.. اعتدتُ حين عودته الشهرية إلى البيت أن أمسح الحزن بألوان الملابس الزاهية التي يحبها وأن أرتب الخيبة بأناقة، لكن لم يكن بوسعي أن أجعله يعيرني انتباهاً مُختلساً من قائمة اهتماماته التي سئمتُ كثرة ترديده إياها وكأنها شعائر لا تواعد التسويف ولو سهواً. «كل ما يهمّني هي السلامة الجوّية.. أن تكون الرحلات آمنة والركاب مستمتعين بالراحة وأن يتم نقل البضائع بالشكل المطلوب».. من الصعب أن أجد لي مكاناً في حياة نُذرتْ بأكملها لإحراز المرتبات وزيادة عدد الأشرطة. أتأمّل القمر وقد اكتملت استدارته وتلك التضاريس التي تشبه النوافذ المكسورة على سطحه.. أمدُّ يدي.. أتلمّس شعاعه وهو ينسكب عميقاً في حدقتيّ حتى يبلغ أشدّ حجرات القلب ظلمة.. أمدُّ يدي أكثر.. «يصبح اصطياد القمر سانحاً حينما يكون بدراً» هكذا قال زياد حينما كنا أطفالاً.. ثم التفت إليّ وطوّق وجنتيّ بكفيه وأردف: «وجهكِ أكثر بهاءً من القمر حين يكون بدراً!».