يحتفل الراحل إبراهيم أصلان بالأشياء النمطية أو المهملة في حياتنا، فيباشر الأشياء بنبض العين، وليس إحساسها العابر، وعينه إن صح التعبير فوتوغرافية، بأبيضها وأسودها، لتظهر أقصى التطرف بين الظل والنور، القبح والجمال، وهي عين سينمائية أيضاً، تلتقط آلاف الصور التي يمكن التعبير عنها بكلمات قليلة. ومثل اللهو في الزوايا المظلمة، الذي لا يتقنه إلا شخص صموت يراهن على فلسفة بسيطة بين حجرة نوم الرجل المتقاعد وزوجته، والمطبخ، وأولاده الذين يزورون صفحات الرواية، أو القصة، أو المتتالية المنزلية، كما أسماها أصلان نفسه. قرين أصلان، كرجل متقاعد، يتجول في حجرتين وصالة، في مكان ضيق يفيض على حياة ضاقت مفرداتها بين النوم ليلاً، وتناول الدواء، وغفوات متكررة أمام التلفزيون، ومماحكات مع زوجته، وحين يتقدم العجوز إلى المطبخ يُفسح القرين للعجوز، وحين يغفو على أريكته، يُنصتُ أصلان إلى صفير تردد أنفاسه، ويرسم حكايا عن أحلام عينه السريعة؛ هنالك مراقبان، أصلان ونفسه، والعجوز ونفسه، والقارئ ونفسه، ثلاثة أزواج تدير رأس الكاتب، لكنه لا يحفل بها، ولا حتى بنفسه، لتمضي الحكاية بين حجرتين وصالة، عبر ثماني وعشرين حكاية أودع فيهما أصلان خبرة نادرة في نسج الدهشة في كل تفصيل، بخفة دم تلدغ بضحكة وابتسامة، وبلغة لا تقيم فاصلاً بين العامية والفصحى حتى في السرد، ناهيك عن الحوار. أما عناوين فصول المتتالية فتصدم في إيجازها وغرابتها « عدس أصفر؛ كان يعتقد؛ زجاجة بلا غطاء؛ الرجل الذي كسر الطبق؛ بعد المغرب.. تقريباً؛ آخر النهار؛ آخر الليل؛ أول النهار»، والمسألة ليست مجرد اقتصاد في اللغة، أو بلاغة، فأصلان معروف عنه بعده عن الفصاحة التقليدية، وهو على علم بها، وعدم زجه اللغة كمفهوم أيديولوجي في حياة الناس البسطاء الذين لا يعرفون اللغة نفسها حتى يجادلوا في الأيديولوجيا وتفكير المتفيهقين من المثقفين، هو ببساطة يأخذ الكلام من أفواه ناس «الكيت كات» في حي «إمبابة» حيث كان يعيش، ففي «الرجل الذي كسر الطبق»، نقرأ كيف حاول العجوز مداراة جريمته حين كسر الطبق في المطبخ، في حوارية مبثوثة بين مفردات سرد موجز «يعني يكون عفريت خده يا ربي؟ وأطل عليها من باب الحجرة وقال باستنكار: يعني هو العفريت مالقاش غير الطبق ده بالذات اللي يا خده».وفي «كان يعتقد»، نقرأ «ولما وقفت أمام مدخل الحجرة الجانبية وسألته إن كان يريد أن تضع له الطعام الآن، أو ينتظر حتى تنتهي من ترتيب الغسيل؟ فكر قليلاً وقال: عموماً، أنا مش جعان قوي، وإن كنت أعتقد.. وهي قاطعته: هو أنت ليه حتعتقد؟ إزاي يعني؟ يعني ما زهقتش من الكلمة دي؟..... هو أنا بقولها كتير والا إيه؟.. كتير. إنت كل كلامك أعتقد.. كل حاجة لازم تعتقد. قدام التلفزيون أعتقد. فلوس الإيجار أعتقد. العيش أعتقد. فاتورة الكهرباء أعتقد.. التليفون أعتقد. نور السلم أعتقد. الزبال أعتقد. البواب أعتقد. يعني ما فيش حاجة تحصل إلا وأنت أعتقد».أما عن التاريخ، فإن أصلان لا يحفل به، أو لا يستطيع، إنه تفكير «الغلابة» في مصر، الذين يعيشون كالطيور، رزقهم يوم بيوم، وفرحهم، وحزنهم، يتذكرون أحباءهم فيبكون أو يضحكون، يقومون يومهم الذي يتكرر لآلاف المرات، ويبتعدون عن شوارع الازدحام منزوين بين حجرتين وصالة، إن جاز لهم هذا الترف، على عكس بطل أصلان المترف في عشه، بعدما تزوج أولاده وبناته وغادروا بيته، وبعدما توفيت زوجته، فافتقد حتي قرين الفراش ومن يشاركه تنفس هواء الشقة، ومن يجادله فيما يود أن يأكل، أو متى ينام، أو هل نسي أخذ الدواء؛ وخريف العمر ذاك لابد أن أصلان وضع شيئاً كثيراً منه في دفتي الكتاب خفيف الوزن، خفيف الظل، قليل عدد الصفحات، كثير المتعة والفائدة والفن.نُذكِّر أن إبراهيم أصلان، الغني عن التعريف، حاز على جائزة الدولة التقديرية في مصر عام 2003م، وله عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها «بحيرة المساء»، و»وردية ليل»، و»عصافير النيل»، و»خلوة الغلبان»، و»حكايات من فضل الله عثمان». وله أيضاً «مالك الحزين»، التي تحولت إلى فيلم «الكيت كات». الكتاب صدر عن دار الشروق في القاهرة عام 2009م، وهذه التي نقرأها هي طبعته الثالثة عام 2010م، والغلاف للفنان محيي الدين اللباد، الذي اختار، ويا للمفارقة، صفحة الوفيات في جريدة مصرية كخلفية لمفردات من المتتالية.