في «مالك الحزين» لم يتوان الشيخ حسني عن الإلقاء بتفاصيل كل البشر من حوله على قارعة الطريق عبر حكيها في الميكروفون، ولم يهتم كثيراً الشيخ حسني بعواقب ما فعله لأنه كان مؤمناً أن التفاصيل تصنع حياة البشر، أو بالأحرى التفاصيل تصنع الحياة. وإذا كان الكاتب المصري إبراهيم أصلان قدم الشيخ حسني عام 1983 فإنه لم يتخل عن التفاصيل حتى يومنا هذا، فصدر له حديثاً كتاب «حجرتان وصالة» (دار الشروق المصرية). وفي ما بين التاريخين صنع أصلان إيقاعه المتميز، الذي يتسم بهدوء خادع، يخدعك ويسحبك لتجد نفسك متورطاً تماماً في قلب الحكاية التي تركز على التفاصيل. إنه الهدوء الخادع الذي قد يسحبني شخصياً للكتابة عن الأعمال السابقة، ولكن يبقى إغراء الكتابة عن «حجرتان وصالة» كبيراً وضاغطاً. في الثقافة المصرية (سواء كانت شعبية أم رسمية) يحمل مصطلح «حجرتان وصالة» الكثير من الدلالات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية. فعلى المستوى الاقتصادي يسكن معظم الشعب المصري في شقة مكونة من حجرتين وصالة، ومن هنا تبدو عادية وحميمية وأليفة الوصف. حجرتان وصالة هي أقصى ما يستطيع المرء المنتمي للشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى الحصول عليه، وهو المكان الذي تعيش فيه الأسرة كاملة. وفي مثل هذه البنايات يتقارب السكان، ويتداخلون في التفاصيل وقد يتقاطعون في المسارات، ناهيك عن التقارب الشديد الذي يحدث بين أفراد الأسرة الواحدة بسبب صغر المكان. وهو التقارب الذي يفرض عليهم ضرورة التعايش، كما أنه لا يمنحهم إلا جزءاً يسيراً من الخصوصية البورجوازية التي تشمل المكان وتفاصيل الحياة اليومية. يعبر مصطلح «حجرتان وصالة» عن حتمية المشاركة في هذه التفاصيل اليومية، ومن هنا يكتسب المكان - بصغر حجمه وحميميته - أولوية على التفاصيل. وعلى الجانب الآخر، تبدو هذه التفاصيل عمومية في عاديتها وتكرارها مع غض النظر عن مكان حدوثها. هكذا تتصارع التفاصيل بهدف الحصول على السبق السردي، إلا أن الراوي العليم الذي يحكي التفاصيل من وجهة نظر الأستاذ خليل (وكنيته أبو سليمان) ينجح في استقطاب القارئ ليتأمل في عمقها وجوهرها على رغم عاديتها: إنها العادية المدهشة. يستكمل الكاتب محاولة توريط القارئ في المكان - «حجرتان وصالة» - عبر توصيف العمل (على الغلاف) بأنه «متتالية منزلية». لا يمكن أن يعني هذا التوصيف أي شيء إلا إذا جاء فعلياً بعد العنوان لتكتمل دلالة السكن والحياة، ولأن المنزل هو مكان التفاصيل بوصفه الحيز الخاص لا بد إذاً من أن تكون المتتالية تتلو التفاصيل، أي أنها تفاصيل تدل على نفسها ولا تؤشر على ما يقع خارجها في الحيز العام. بعد القراءة يتضح أن الحيز الخاص والعام قد اجتمعا في تفاصيل الأستاذ خليل وفي الحجرتين والصالة، ويتضح أيضاً أن الكاتب تمكن تماماً من الأجناس الأدبية كما هي معروفة، فأصبح لديه الحق الآن في معاودة صوغها. الكتاب ليس قصصاً قصيرة مطلقاً، ولا هو رواية بالمعنى المتعارف عليه، ولا مثلاً اختار الكاتب أن يسميه - كما يفعل الكثيرون - نصوصاً. اختار أصلان أن يصف الكتاب بأنه «متتالية». تفاصيل مختلفة تحدث للشخص نفسه - الأستاذ خليل - وتقع في المكان نفسه. حجرتان وصالة، ليست مشاهد من حياة خليل، بل فعلياً تفاصيل حوار الذات مع نفسها عن كل ما يقابلها في يومها، حركة العقل ودوافعه في فعل ما يختار أن يقوم به، كافة الهواجس التي تسيطر على الإنسان في لحظة حتى يبدو أن العالم أوشك على نهايته، وتنتهي بوقوع تفصيلة لا تخطر في بال، والأهم أنها تفاصيل تصور لحظة أهملها الأدب العربي كثيراً، إنها لحظة الشيخوخة. هي متتالية - ثماني وعشرون واحدة - إذاً ليس في ما يتعلق بالزمن بقدر ما يتعلق بالمكان والتفاصيل اليومية العادية في حياة الأستاذ خليل. يعيش خليل وزوجته إحسان في حجرتين وصالة ليمارسا حياتهما القائمة على مشاهدة التلفزيون وود الجيران والحرص على تناول العلاج واستقبال الأبناء. هناك أيضاً فتح باب الثلاجة والنظر في مرآة الدولاب وارتداء الملابس ثم غسلها ونشرها وطيها إلى آخر تفصيلة يمكن أن يقوم بها الإنسان في منزله. وفي أثناء ذلك تنشب الخلافات - التي هي احتكاكات الحياة المعتادة والتي هي دائماً غير حقيقية - التي تشبه خلافات الطفولة بخاصة من جانب الأستاذ خليل الذي يستقبل تعليقات زوجته إحسان وكأنها تقولها للمرة الأولى. وفي المتتالية الثانية عشرة تموت إحسان ليبقى خليل وحده يقاوم إحساسه بالحزن والوحدة كما الأطفال تماماً من دون الاستغراق في أي شبهة ميلودراما. بل إنه يستغرق مرة أخرى في التفاصيل المشوبة بظهور آثار التقدم في العمر، كأن رحيل إحسان أفسح له مكاناً في الحجرتين والصالة ليظهر ما كان يحاول التحكم فيه، فيستمتع مثلاً بالشرب من زجاجة ماء بلا غطاء في متتالية كاملة عنوانها «زجاجة بلا غطاء». تتراكم التفاصيل التي لا تحمل أي حدث رئيس، وعندما يصل القارئ إلى المتتالية، قبل الأخيرة - «آخر الليل» - يدرك أنه قد مر أربعون يوماً على رحيل إحسان، ويدرك أن التفاصيل هي في حد ذاتها الحدث الرئيس. اليومي والحميم والمألوف الذي تحول على يد أصلان إلى كوني ومدهش وغريب هو جوهر المتتالية التي ليست قطعاً «منزلية». تكتسب التفاصيل مزيداً من النداوة بفعل استخدام تراكيب لغوية مباشرة لا تهرب من العامية تماماً ولكنها تقتصد في استخدامها. تبدو الحوارات قليلة في المتتالية في شكل عام، وقليل منها يقوم على الحوار كما الحال في «زقاق جانبي» و «استشارة منزلية». يتم توظيف الحوار من أجل الوصول إلى الغاية الرئيسة وهي تتبع تفكير العقل في التفاصيل وفي هاتين المتتاليتين يبدو العقل مشغولاً بدجاجة بنية أو بآكلي لحوم الحمير والثعالب في حديقة الحيوانات. بل إنه مستغرق تماماً حتى لا يكاد يلحظ غرابة ما يقوله وينشغل به. عبر هذه المتتالية يؤكد إبراهيم أصلان قدرته على تجاوز ما أبدعه في السابق، فيقدم مغامرة أدبية تعتمد جنساً جديداً على السرد العربي، أو بدقة أكثر، ليس مألوفاً. وهي مغامرة بحق لأن شخصية الأستاذ خليل وحياته تغريان بكتابته في رواية، إلا أن الكاتب اختار التقاط التفاصيل العادية وتحويلها إلى أسباب للدهشة من العقل الذي ينسج متتالياته لا مبالياً بالزمن الخطي، أو الحبكة التقليدية. وهو في هذا يحول المكان - «حجرتان وصالة» - إلى البطل الرئيس الذي يتحكم في عدسة الرؤية. * كاتبة مصرية