لم يمنح الموت إبراهيم أصلان، مسافة تمكنه من رؤية مصر التي تتشكل بعيداً عن نصف قرن قضته في عهدة العسكر. مات بهدوء كما يموت أبطاله، في عمله الذي وصفه بمتتالية منزلية «حجرتان وصالة» تستمع السيدة العجوز لصوت التليفون القادم من التلفزيون فتعتقد أنه تليفون البيت وتقول: «حد يرد على التليفون ياولاد» يضحك زوجها المتقاعد وهو يشاهد أحد أبطال الفيلم يرد على التليفون، ويقوم ليخبرها بأن الممثل سمع كلامها فيجدها ميتة. مات الكاتب الرهيف، القريب من البسطاء والمهمشين صاحب «حكايات فضل الله عثمان» و«خلوة الغلبان» و«بحيرة المساء» و«عصافير النيل» و«مالك الحزين». مات أصلان من دون أن ينتظر قليلاً ليرى ما يحدث في مصر، بعد أن قالت «كفاية» للديكتاتورية، لكن يكفي أصلان أنه عاش ومات من دون أن يتلون ويتبدل، بقي دائماً بجانب أبطاله البسطاء، قريباً من «الكيت كات» والشيخ حسني، قريباً من النيل وعصافيره. عاش أصلان ومات منحازاً إلى الناس، وربما لهذا كان من ابرز سمات أعماله السردية قدرته الفذة على استخدام الحوار بطريقته الخاصة والساخرة دائماً، الحوار في أعمال إبراهيم أصلان اسهم دائماً في دمج القارئ في أجواء السرد، حتى نكاد نشم روائح حواري القاهرة العتيقة. في «عصافير النيل» يطلب عبدالرحيم المنوم في المستشفى من زوجته أن تأتيه بسيجارة ويهمس لها «الراجل اللي قاعد هناك، ده أبو طربوش هاتي منه سيجارة»، تتلفت حولها وتقول: «هو فين اللي قاعد ده؟ الناس كلها نائمة يا عبدالرحيم وما حدش لابس طربوش». عاش أصلان مؤمناً بالفن ورافضاً لفكرة توجيه القارئ وتحميل أبطال قصصه مواقفه الفكرية والسياسية، استمر يكرر: الناس ليسوا في حاجة لمن يفكر نيابة عنهم، الكاتب أو الأديب ليس وصياً على القارئ، وأنا لا أطالع همنجواي وماركيز وفوكنر لكي أعرف مواقفهم الفكرية والسياسية، ولكن من أجل ما قدموا من فن». استمر صاحب رواية «مالك الحزين» مخلصاً ووفياً للقصة القصيرة، كان يقول: «أنا عاشق للقصة القصيرة ولديّ إيمان عميق بأن هذا الإطار فيه إمكانات كبيرة لتقديم أشياء كبيرة ومؤثرة، ولا أرى أن القصة القصيرة في انحسار أو أن الغلبة للرواية كما يدعي بعضهم، لكنها شكل مهم جداً من أشكال الكتابة ويحتاج لمهارات خاصة جداً». وربما لهذا استطاع أصلان أن يقدم في عمله الجميل «حجرتان وصالة» نوعاً من الكتابة لا يخضع للتصنيف، هل هو رواية على شكل متتالية كما وسمه؟ الأهم دائماً أنه سرد ساحر وجذاب وعميق وساخر، هو سهل ممتنع حتى وإن أصبح هذا الوصف مبتذلاً ومكرراً. وداعاً إبراهيم أصلان.