في مختلف الثقافات، ثمة ناتج ثقافي يتمثل في جمل مفتاحية حكيمة. كلمات بسيطة تصف حال الناس وصفاتهم. ففي الثقافة المغاربية، مثلاً، شدتني مخلفات الثقافة الاجتماعية التي تقول «إذا أراد الله أن يُفرح فلاحاً، يجعله يضيع حماره ثم يلقاه فيفرح كثيراً، وهذه فرصته الوحيدة لكي يفرح». حسٌّ عميق وحزين نوعاً ما، كما أن به بعض المفارقات في كيف أن هذا الفلاح البسيط لا فرص كبيرة أمامه للفرح سوى أن يعطيه الله فرصة أن يفقد ما لديه ليستعيده. أما في ثقافة الغجر فيقولون «ابقَ حيث الغناء، فالأشرار لا يغنون!». ثمة تشاؤم مغلف بتفاؤل، وثمة عجلات لتطور المجتمعات لم تُدفع جيداً، فهل تبقى المنطقة لدينا أسيرة لثقافة الفلاح البسيط الذي يضيع حماره فلا يحصل على سيارة مرسيدس فاخرة مثلاً، وعوضاً عن ذلك يجد حماره القديم فيكتفي بهذه الجرعة من السعادة؟. أم لثقافة الغجر التي تجِسُّ الشر والخير في حسٍّ شعبوي بسيط؟. في مقابلة في موقع Rue 89 للفيلسوف الفرنسي المعاصر إدغار موران Edgar Morin، يقول: «يجب الوصل بين (تفاؤل وتشاؤم)، هذا هو التفكير المركب، إنه الجمع بين مفاهيم يدفع الواحد منها الآخر». وهذا الموقع الصحافي، بالمناسبة، اشتق اسمه، بحسب محرره «باسكال ريتشي»، من مفهوم الحرية التي أتت بعد الثورة الفرنسية عام 1789 وسقوط برلين عام 1989، إضافة إلى معنى كلمة الشارع في اللغة الفرنسية، وهي تسمية رمزية جديرة بالتأمل. وقد شدني موران نفسه في أساسيات كتابه «إلى أين يسير العالم»، حين أشار إلى التطور في المجتمعات بقوله «إنه ليس آليا»، هكذا يصف الأمر، ولا وجود لقوى مهيمنة حصرية تقود التطور، فالواقع الاجتماعي هو في نظره واقع متعدد الأبعاد ويشتمل على عوامل عدة مختلفة؛ عوامل ديموجرافية وأخرى اقتصادية وتقنية وسياسية وأيديولوجية، وقد يهيمن أيٌّ منها أو بعضها على الآخر في وقت ما، لكن «هناك تدوير لهذه الهيمنة»، لا شيء ثابت في عالم متحول بطبيعة الحال. وفي كتابه هذا، لم ينس موران أن يتوقف، وكثيراً، عند ثقافة العالم الثالث المتأخرة، فلا يعتبر سبب تأخر هذه الدول لأنها تأخرت بهذه البساطة الشديدة؛ بل لأنها تحاول استزراع الشكل الغربي للتقدم خارج الشروط التاريخية والثقافية والتقنية التي كانت تنتمي إلى التقدم الغربي نفسه. تماماً، هذا ما يحدث في بعض المجتمعات، كما لو أننا نستزرع شجرة بابايا في أرض غير ملائمة، وأعني بذلك أن لا تُعطى الفرصة للناس أن يواكبوا المتغيرات المادية تماماً، حتى لا ننتهي برؤية، وهذا فعلاً ما يحدث، نموذج شكلي لا يرى إلا الآلة الصناعية وحدها ولا يؤمن بتطور فكر الإنسان أولاً. هو الذي تكون ثقافته الأولية لاحقاً غير متكيفة تماماً مع عالم صناعي متقدم، وذلك تحت ضغط عامل الزمن؛ أي أنه لا يكون هنالك سوى تنمية تحمل في ذاتها تخلفاً ليس إلا. في النهاية، سنخلص لقولٍ، كما يرى موران تماماً، أن كل تقدم هو تقدم جزئي ومحلي ومؤقت، وفوق ذلك فهو تقدم ينتج الانحطاط والفوضى، فالغرب مر بتطورات اجتماعية هائلة مكَّنته من فلترة مخلفات فكرية إنسانية رديئة، لا أظنه ينظر إليها الآن سوى كونها ذكرى بائدة. إذن، وإن كان الناس في غالب المنطقة العربية يعيشون بآلات صناعية حديثة، إلا أنهم يعيشون فترة زمنية متأخرة عما مر به العالم الغربي اجتماعياً، منذ حروب القرون الوسطى الدموية الطاحنة التي جعلتهم يستيقظون إثر صدمات عنيفة، وهنا بإمكاننا أن نعرِّف المعنى الحقيقي للتقدم الذي نعنيه، التقدم الفكري الذي يشكل قاعدة عقل المجتمع المتقدم أساساً. فالنمو الاقتصادي والتقدم الإنساني صنوان نعم، لكن هناك عوامل أخرى أساسية للوصول إلى هذه التوليفة. يعتقد موران أن بإمكان كل شيء أن يتغير من جديد من خلال ولادة إنسانية جديدة محتملة؛ إذ لم يعد الأمر يتعلَّق بتحقيق التقدم، وإنما بإحداث ثورة داخل فكرة الثورة نفسها، وهي الثورة الفكرية لا السياسية حصراً، فآلية التغيير هي التي ينبغي أن تتغير. وبإمكاننا هنا العودة إلى فكر وأسئلة ثوار القرن التاسع عشر في أوروبا. إذن فالتطور لا يأتي دخيلاً، ولا قشرياً، ولا آلياً. هذه هي الخلاصة، التغيير أو التطور الفكري والاجتماعي على أية حال لن يأتي في إبريق من الفضة يسكب لنا في الأقداح، ولا في ماكينة قهوة اسبريسو سريعة التحضير، إنه يأتي بالتفاعل مع أدوات التقدم الفكرية كما المادية تماماً، هكذا.