بعد نشر مقالتي الأولى حول موران قبل أسبوعين تلقيت ردوداً على صفحتي في «تويتر» تضمنت نوعين من ردود الفعل اللتين لم أتوقعهما فحسب، وإنما ألفتهما. قالت الأولى أن الغرب مهما كثرت مشكلاته أو احتدت فله من المنجزات ما يطغى على ذلك، بينما تضمنت الثانية أن الأولى بنا أن ننشغل بمشكلاتنا بدلاً من مشكلات الآخرين. في تلك المقالة عرضت بعض ما تضمنه كتاب موران حول سياسة حضارية ونقده للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في الغرب، ولا سيما فرنسا. ومع أنني حاولت درء بعض النقد العربي التقليدي لأي مساس بحرمة المنجز الحضاري الغربي فإن ذلك لم يَحُلْ دون استياء من يرون في ذلك المنجز حلاً أو بعض حل لمشكلاتنا على ضخامتها. وفي تقديري أن الاستياء سيستمر عند تأمل أطروحات موران في هذا الكتاب الآخر للفيلسوف الفرنسي أو بالأحرى نتيجة لنبش كاتب مثلي عن أطروحات نقدية كتلك، بدلاً من الحديث «الايجابي» عن الحضارة المعاصرة التي تصاغ منذ ما لا يقل عن خمسة قرون في أوروبا وأميركا. في الكتاب المعروض هنا، والذي يحمل عنواناً مثيراً هو «إلى أين يسير العالم؟»، يتناول موران بعض الأطروحات التي شغلته فشهرته. لكن قبل الوقوف على تلك القضايا أشير إلى أن هذا الكتاب سبق كتاب «نحو سياسة الحضارة» بما لا يقل عن 15 عاماً، فقد نشر في أوائل الثمانينات من القرن الماضي (والترجمة الحالية جاءت، كما هي ترجمة الكتاب السابق، ضمن نشاط الملحقية الثقافية السعودية في فرنسا)، وهو ما يعني أن الكتاب تشكل في خضم متغيرات اجتماعية وسياسية مختلفة، إلى حد كبير، وفي طليعة تلك المتغيرات، على المستوى السياسي، وصول الحرب الباردة إلى ذروة عالية من التوتر بين الاتحاد السوفياتي ومن يدور في فلكه مما عرف بالمعسكر الشرقي آنذاك، من جهة، والولايات المتحدة ومن تهيمن عليه بدورها، من جهة أخرى. في ذلك السياق أطلق موران توقعه الضمني باحتمالات انهيار العملاق السوفياتي قبل انهياره الفعلي بسنوات قليلة. وكان من الطبيعي أن تكتسب أطروحات موران وتحليلاته أهمية خاصة، لدى الكثيرين وفي وسائل الإعلام بالدرجة الأولى، نتيجة لتحقق توقعاته. غير أن قارئ موران في كتبه بشكل عام - ومنها الكتاب الذي أتناول هنا - مدعو للإنصات إلى ذلك المفكر، وهو يخوض في مسائل أقل ارتباطاً بالمتغير والآني، مسائل لها صفة الديمومة في حركة التاريخ ومتغيرات الاجتماع والتمدن. من تلك المسائل التي يعج بها «إلى أين يسير العالم؟» (وهو كتاب ينبهنا مترجمه أحمد العلمي إلى أنه جزء من كتاب أكبر عنوانه «الخروج من القرن العشرين») مسائل تتمحور حول مفاهيم «التاريخ» و«التقدم» و«الإنسانية»، بيد أن تناول موران مسائل كبرى كهذه يأتي في سياق تمتزج فيه الأحداث والمفاهيم إلى الحد الذي يصعب معه الفصل بين ما يبدو عرضياً وغير عرضي أو الاحتفاء بأحدها من دون الآخر. يعني هذا أن ننظر إلى هذه المسائل مجتمعةً وهو ما لا تستطيع مقالة في صحيفة سيارة النهوض به. لذا آثرت، بل وجدت حتمياً، أن أبرز إحدى المسائل الكبرى في الكتاب واخترت مسألة التقدم لأهميتها البالغة في تقويم موران لمستقبل العالم وتطور أحداث القرن العشرين، من ناحية، ولسيطرة مفهوم التقدم على تفكير الكثيرين ليس في الغرب وحده، وهو مدار اهتمام موران، وإنما في منطقتنا العربية بشكل خاص. فلدى الكثيرين - وليس البعض فحسب - يعد التقدم مفهوماً مركزياً واضحاً وثابت الدلالة: التقدم هو مقابل التأخر، والغرب متقدم والشرق متأخر، إلى آخر منظومة المقولات القارة في الأذهان والتي يأتي هنا مفكر بحجم إدغار موران ليهزها هزاً فيقلب دلالاتها قلباً يجعل من الصعب على القارئ المنصف والباحث عن المعرفة الجادة أن يواصل الحديث عن مفهوم كذاك بالطريقة نفسها، وعلى الوتيرة ذاتها. في فصل من الكتاب يقول عنوانه كل شيء «تقهقر داخل التقدم وتقدم التقهقر» يفصل موران حول مفهوم التقدم فيشير إلى أنه لا يوجد «مجتمع إلا ويعيش، لا بفضل حياة أفراده، بل وكذلك بفضل موتهم. وهكذا لا وجود لتقدم تحقق بشكل نهائي، ولا لتقدم ليس إلا تقدماً، ولا وجود لتقدم من دون ظل. إن كل تقدم مهدد بالانحطاط ويحمل في ذاته العملية المزدوجة الدراماتيكية للتقدم/التقهقر». لكن السؤال يعلق بتاريخ هذا المفهوم، فمن الواضح أنه في عصور مضت لم يكن الناس يتحدثون عن تقدم وتأخر، وإنما عن عمران وخراب أو رقي وانحطاط. فمتى وُلد المفهوم؟ وما جذوره الفلسفية؟ يوضح موران ذلك بالإشارة إلى تطورات شهدها الغرب، ابتداءً بعصر النهضة: «ومن المثير أن الإنسانية العلمانية وفلسفة الأنوار وأيديولوجيا العقل قد بنت على أنقاض العناية الإلهية فكرة للتقدم، وعملت على أقنمتها وتشييئها في صورة قانون وضرورة للتاريخ الإنساني، وظلت هذه الفكرة مفصولةً عن كل تجسد، ومجردةً من كل واقع فيزيائي وبيولوجي، بحيث أنها غيبت مبدأ الفساد والتحلل العامل في مجال الفيزياء، والكون، والحياة». ثم يربط موران أسطورة التقدم هذه بأسطورة التقنية والنمو الصناعي والتنمية الاقتصادية في عملية تقدم لا نهائي. إن موران لا يعترض على التقدم إلا بمقدار ما يفرَّغ أيديولوجيا من عوامل التقهقر والفساد التي يراها ملازمة له، بدليل ما وقع فيه العالم الذي يعد متقدماً من انهيارات وأزمات، منها الحروب الكارثية، ومنها دمار البيئة، ومنها التشرذم الاجتماعي وغيره، مما يوضحه هنا، وفي مواضع أخرى من كتبه منها كتاب «نحو سياسة حضارية» الذي استعرضت في المقالة السابقة. فالتقدم ليس كما نعلم مفهوما مهيمنا في الغرب فحسب، وانما هو أيضاً وربما إشكالية عالمثالية ومن اللافت اهتمام مفكر غربي فرنسي بتلك الإشكالية من زاوية العالم الثالث أو النامي. هنا يتحدث موران «عن عملية إنشاء عنيفة لنموذج غربي للتقدم خارج الشروط التاريخية، والثقافية، والتقنية التي كانت تنتمي إلى التقدم الغربي، وبالتالي فهو نموذج مفروض من الخارج، نموذج تقني بيروقراطي لا يرى إلا الآلة الصناعية، ولا يرى أبداً الإنسان، الذي تكون كفاءته الأولية ضرورية لعمل الآلات والذي تكون ثقافته الأولية غير قادرة على التكيف مع عالم تقني موضوع تحت ضغط القياس الزمني». هذا في مقابل ما يحدث في الغرب «المتقدم» من ازدواجية تجمع بحبوحة العيش ورفاهية التقنية إلى جانب الضيق والضجر المتزايدين ليس فقط «على شكل ضجيج وتلوث تقنو - كرونومتري - بيروقراطي يجثم على حياة كل فرد، لكن أيضاً على شكل فقر سيكيولوجي، وأخلاقي وعقلي، لحياة الملايين من سكان المدن في الغرب...» أما النتيجة لذلك كله فيختصرها بالعبارة الآتية: «وهكذا، فإننا نجد في كل مكان من هذا العالم فائق التنمية وفي العالم السائر في طريق النمو، تنمية لأشكال من التخلف غير مستقلة عن التنمية ذاتها». إنها المفارقة الصارخة: تنمية التخلف. التنمية، كما نعلم، هي تسمية أكثر تواضعاً للتقدم الذي يصوغ الغرب مستقبله من خلاله. هم متقدمون ونحن نامون أو هم متطورون، ونحن متخلفون بحسب ما يرى البعض. والارتباط العضوي بين التقدم والتنمية هو ما يجعل موران يراهما من الزاوية ذاتها: «وبناءً على ذلك، تبدو لنا التنمية واقعاً متأزماً وحرجاً يحمل في الوقت نفسه ما يحمل من الهدم والإبداع والتقهقر والتقدم...». أخيراً ما الذي يا ترى يمكن عمله إذا قبلنا ما يراه موران أو ما إذا افترضنا صحة ما يراه؟ إنه من دون شك التخطيط الأكثر ترشيداً وتأنياً للمستقبل، التخطيط والتحرك الواعي بنواحي القوة والضعف، النجاح والفشل، للنموذج الحضاري المطروح عالمياً، أي النموذج الغربي، الذي يحول ما أسميه العمى الثقافي عن قرائته. ذلك العمى اسم آخر للتعصب، سواء أكان مع الذات أم ضدها، ومع الآخر أو ضده. أطروحات موران تتضمن ما يعين على تجاوز ذلك التعصب أو العمى أو - كما أظنه سيقول - التخفيف منه، وهو ليس الوحيد بين النخب الفكرية الغربية التي وقفت على مشكلات التحضر وخياراته، لكنه من أكثرهم تكريساً لجهده في تحليل تلك المشكلات والبحث في كيفية تجاوزها، ولأننا في الوطن العربي، إما على أعتاب تلك المشكلات أو متوغلون فيها، فحري بنا أن ننصت باهتمام إلى ما يقوله هو وأمثاله.