ليس المعمار أو العمارة هندسة للفراغ فحسب أو تأثيثا لفضاءات الحياة فقط. وليست وسيلة لانتظام الأجساد بما يحيطها، بل أعمق وأبقى من ذلك بكثير. هي اللحن بقدر ما ننصت له أو نعتاده حد النسيان؛ يعزفنا ويرسمنا حركة متناغمة في سمفونية الكون. لربما نستدعي توصيف أحد الفلاسفة للعمارة: بأنها الموسيقى المجسدة. حجارتها تنساب بين مفاصل الروح وتعيد تهذيبها. العمارة هي النَّحات الخفي، الذي يطرق بدأب وإتقان الحيوات وينسجها برقة منسجمة. فالأمكنة بهندستها وهي تشكل حركة الناس بانسيابها، لا تكتفي بتنظيم الحركة وتوزيع الأدوار، بل إنها بخفة عالية تغوص وتغزل قماشة الحس في النفوس. في جميع المدن التي تعي حقيقتها وتتفهم تلك العلاقة المتنامية بين الكائن والمكان، تتوارث الأعين والبصائر واجهات المباني وزخرفها كابرا عن كابر، فإضافة لما له علاقة بطمأنة الروح وتشييد الألفة التي تتحقق من خلال النوستالجيا أو الحنين، إلا أن الوعي يكمن في التفهم الأعمق لما ينميه المعمار من معرفة وتربية للإنسان. في تلك المدن لا يمكن أن تزيل حجرا عريقا أو تقطع شجرة مورقة، أو تهب مسطحا أخضر لشراهة الإسمنت، أو تشيد مبنى قبيحا بمثل الاعتباطات التي تتم في مدننا العربية دون اعتبار لسلالة العمارة. لن أدعو إلى ما يسمى مفهوم الإجماع والقطيعية في العمارة، التي تحد من التفرد، بل أن يكون هناك ناظم جمالي منطقي بما ينتمي إليه من تراث مع إبداع ما يتفرد ويخرق الإجماع بحرية فنية تعبر عن الروح الإنسانية وتعي مفهوم البناء. لهذا فإن أغلب المدارس الأدبية والفنية التي تركت أثرا عميقا في الحياة البشرية، انطلقت في بنيتها الفلسفية الأولى من المعمار، من ثم انتشرت تلتهم بقية الفنون. أغمض عيني وأفكر في كلمات مثل: الحجر، الحديد، الخشب، الإسمنت، الطين، الزجاج، القماش، النافذة، الأقواس، البهو، ال… ما الذي يتدفق في القلب من مشاعر وطعم وذكريات وأحاسيس. كيف لا نجد رابطا بين التفكك الاجتماعي والقلق والأعراض النفسية المستجدة وبين المعمار العشوائي والبناء المشوه واللامنتمي للمكان؟. كيف لم نر الطمأنينة والرضا والسعادة بين قاطني المباني المحمية والمدن الواعية بدورها التاريخي؟ ألم نتعلم بعد أن الطراز المعماري مرتبط بعلاقة وثيقة بشخصية المجتمع وهويته؟ قيل مرة : «نبني المباني ومن ثم تبنينا». فكل ما يحيط بنا من هندسة للمكان، نشعره بوعي منا ودون وعي، يرسل فينا إشاراته التي تتحول إلى علامات تنقل حمولات ثقافية وإرث مسبق. وإذا كان المعمار مبتورا من سياقه، منبتا ومليئا بالمتناقضات والفوضى، خاماته مثل قطع كولاج تنفي بعضها بعضا، فالساكنون معرضون للتهدم المستمر. العمارة تؤلف الكون عندما نعيش في مكان فإننا نحياه. المعمار وهو يستوعبنا كوعاء ويضمنا كحاضن إنما يغذينا بمعرفة وثقافة. تقسيمه للأماكن وتوزيعنا فيها، يطبعنا بطابعه. وعبر الرؤية والسكن يتغلغل ويسمنا بسمات تحيلنا إلى ما نحن عليه. هل نتذكر آخر مرة توقفنا فيها في الشارع وأجبرنا مبنى على تأمله؟ منذ متى قطعنا طريقا على أقدامنا طلبا للفرجة – ما عدا الأسواق المقفلة بالطبع- واستنشقنا متنزها أو وردة؟ لمثل هذا نفتقد تلك النشوة المنظمة التي تمنحها العمارة الواعية في سعيها الحثيث نحو الجمال وليس السعي اللاهث إلى القبح. العمارة التي لا تزال تعزف في أصقاع العالم موسيقاها، تتحول في مدننا العربية إلى أصوات عشوائية، طبقات من النشاز والفوضى الصوتية بعضها يدفع بعضها الآخر. لدرجة أننا نهرب منها عند أول سانحة متمنين العودة وقد صارت -على أقل تقدير- خرساء.