في البدء تجلت موهبة المهندس المعماري العربي الكبير حسن فتحي.. بشكل نظري عبر الأطروحة التي نشرها في فرنسا حول أهمية المكونات الطبيعية والبيئية في معمار البناء الحديث.. في نحو مطلع الثلاثينيات.. والتي تبلورت - فيما بعد - في إطار نظرية هندسية.. أطلق عليها: «عمارة الفقراء». تقول «النظرية» بشكل مبسط.. ان علينا استثمار الموارد الأولية المتوفرة في البيئة الطبيعية التي يعيش فيها الإنسان.. واختبار قدرتها على المواكبة العصرية التي تقوم على التفاعل بين هذه المكونات ونزعة التحديث بطريقة قادرة على توفير مساكن مناسبة ل «الجميع» دون تكاليف باهظة. وبالنظر لأحوال المدن العربية - حينذاك - وجد أن الارتفاعات في المباني تستثمر الصخور والأحجار «الكليسية» التي تلعب دوراً هاماً يمنح البناء قدرة على «التنفس» والتهوية وعكس الضوء والظل وامتصاص الرطوبة بطريقة إيجابية «طبيعية» تحافظ على مستوى الحرارة والبرودة صيفاً وشتاء. أما في «الريف».. فإن مواد البناء الأساسية مستمدة من الطين و«القش» وخشب الأشجار.. ورغم سلبياتها التي تكمن في سقوفها «الواطية».. وسوء تهويتها.. أو قدرتها على استثمار الضوء والظل بطريقة صحيحة.. إلا أن مكوناتها لم تؤثر سلباً على صحة سكانها.. وهم في الغالب عمال أصحاء. وقال - حسن فتحي - إن على المهندس المعماري الحديث.. أن يكون قادرا على التفاعل مع المكونات الطبيعية.. ويستغلها بأفضل الطرق الممكنة.. لإيجاد حلول مناسبة في «التصاميم».. تحول دون «التوسع» في استخدام الأسمنت والحديد.. والذي أبرز الكثير من عيوبه.. ودورها السلبي المؤثر على تفاعلات البيئة الطبيعية. القى نظرة على العمارة التقليدية في بعض دول أمريكا اللاتينية.. وقال بأهمية نموها.. في الواقع الاقتصادي «الفقير». نشرت فلسفة «عمارة الفقراء» في عام 1926م بالفرنسية.. ولم تترجم للعربية إلا في مطلع الستينيات.. وطبعاً لم يكن حسن فتحي وحده الذي تبنى فلسفة استثمار مكونات الطبيعة لأن أوروبا وأمريكا - وحتى في المدن الكبرى - استثمرت القدرة على بناء منازل حديثة تحتوي على كل وسائل الراحة والترفيه.. من مواد أولية رخيصة هي «الخشب» الذي توفره الغابات الشاسعة وتضمن استمرار نموه وفرة المياه. وبالعودة إلى حسن فتحي نجد أنه أراد تعميق نظرته المعمارية من خلال دراسة مباني وأسواق «مصر القديمة».. وقام بمحاولة تطبيق فلسفته الفنية عملياً ببناء قرية «الخالصة» التي تضم المساكن والأسواق وغيرها.. ولم تكتمل منذ مطلع الستينيات حتى الآن. والواقع يؤكد أن فلسفة «عمارة الفقراء» اصطدمت بعوائق كثيرة وشائكة ومتداخلة.. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.. حيث يقوم النمو الاقتصادي على الانفتاح والاستثمار الرأسمالي من جهة.. وعلى تسارع المد «الشيوعي».. وما سمي ب «حركات التحرر».. وما بينهما «نهضة الأسمنت». حتى لقد وصلت فلسفة مثل «عمارة الفقراء» إلى نوع من المثالية و«الطفولة اليسارية» التي لا مكان لها في ظل حركة «تحرر» تريد إزالة واقع فقر «بيوت الطين» بإنشاء الكثير من «معلقات الأسمنت والأسفلت».. وفي ظل حركة رأس مال أبرز مظاهر نموه تقوم على مثل تلك «المعلقات». لذلك من السهل القول ان على صاحب نظرية أو فلسفة «عمارة الفقراء» أن يكون الخاسر الوحيد في مواجهة فكر الأسمنت. ونحن نتسكع في ضواحي إحدى المدن «الكندية» قالت زوجتي بدهشة: - بيوتهم كلها خشب.. وسعرها رخيص.. ليش ما نسوي زيها بدل غابة الأسمنت اللي محاصرتنا من كل مكان. قلت بلا مبالاة: - فكرة كويسة بس لازم يصير نص سكان جدة في المطافي قالت بدهشة: - أعوذ بالله.. ليش مطافي. قلت موضحاً: - لا تروحي بعيد.. شوفي اللي حولك كلهم يشربوا «جراك».. وكلهم يولعوا الفحم وينصبوا «الشيش» في البلكونة.. والحريم ناصبين «أراجيل» المعسل وسط «الصالة» قدام التلفزيون.. وعليكي الحساب.. شوفي كم «حريقة» لازم نطفي كل يوم.