إذا كانت الروحانية السياسية، تتخذ معنى الفضح ومعنى التجاوز، فالإسلام السياسي يمثل إغراءً للمقارنة. وبما أن الحدث (صعود الإسلام السياسي) ما زال سارياً على الرغم من مؤشرات انحساره، فإنني لم أتجرأ على صوغ نتائج المقارنة في خاتمة مقالي السابق، إلا على شكل أسئلة. ولوضع اللمسات الأخيرة يمكنني متابعة المقارنة بشكل لا يخون فلسفة السؤال بقدر ما يضفي عليه بُعداً إشكالياً: متى يصبح الأخير مشكلة عوض أن يكون حلا لها؟ هذا هو السؤال العمدة الذي يختزل بقية الأسئلة ويصب في صلب إشكالية المقارنة. الروحانية السياسية، في فكر فوكو، هي ورقة التوت للتشبع المادي، والترياق المرتجى لخطاب سياسي مخادع بوصفه إعادة إنتاج لهيمنة يدعي تجاوزها، ولممارسة سياسية تنضح بمناخات الحرب. وعلى عكس المقولة الرائجة، ليست السياسة سوى استمرار للحرب ولكن بوسائل أخرى، فالحرب هي وسيلة الانضباط ووحدة البناء في المجتمع الغربي التي تترسخ بفعل آليات إخضاع الفرد بوصفه أثراً. الروحانية بهذا المعنى تتَّخذ اتجاهين وشكلين في الآن نفسه: المجتمع والفرد، بحيث تتجه نحو تحجيم الأول لصالح الآخر. ثمة حالة من اللويثيين «التنين» كما تخيله فيلسوف العقد الاجتماعي «توماس هوبز» تسود وتلوث مناخ المجتمع بميكروبات سلطوية لا مرئية تحيل الفرد الذات إلى موضوع للمعرفة وأثر للسلطة. هذا التنين الذي هو السلطة القاهرة، المستبدة، المتخفية، ينبغي كشفه وتجاوزه في آنٍ معاً، وتلك هي الروحانية السياسية. تمارس الأخيرة فعاليتها، «هنا والآن»، مما يعني أنها ممارسة دنيوية، بخلاف الممارسة الدينية التي تتسم بطبيعة أخروية، ولأن الروحانية تجاوز وليست نفيا، فهي في خطاب فوكو، لن تقوم بعملية إقصاء أو نفي للمادة بقدر ما تتعايش معها، حتى هنا لا تتجلى المفارقة، فالإسلام السياسي، هو كذلك ممارسة آنية، إذ يقدم ذاته كحل أو جواب لإشكاليات دنيوية، بل أكثر من ذلك، فإذا كان الإسلام السياسي محصلة لإشكاليات حضارية وثقافية وسياسية معاصرة، فهو ليس سوى نتاج حداثي، ليس لأنه خطاب راهن يستمد بنيته من منهجه النقدي لتقويض الحداثة وحسب، بل لأنه يتأثث من مفاهيم ومقولات الحداثة نفسها. كل تيارات وفصائل الإسلام السياسي وقعت في هذا الفخ، وإن تفاوتت ففي شكل التوظيف. كمياً أو كيفياً، في التقنية أو في المفهوم، كلها مارست الاستعارة من الخطاب النقيض. فلغرض الدخول في التاريخ وجد الإسلام السياسي نفسه مجبراً، بوعي حيناً، ودون وعي في غالب الأحيان، على توظيف مقولات تولدت في سياق وضمن مرجعية مدانة، وإذا كانت روحانية فوكو تجاوزا، فإن الإسلام السياسي هو خطاب التجيير، كل شيء يخضع لمصفاة التحويل الإسلامية، كل شيء ينبغي تأصيله إسلامياً، بتطهيره من أصله المدنس، الفنون -مثلاً- روحانية مريبة، لابد لغرض أسلمتها من استعارة «الفن الملتزم» من الفكر اليساري، باقتلاعه من أرضه الدنيوية وإعادة تأصيله ليغدو فناً إسلامياً. وفي السياق نفسه بدأنا نسمع عن تشكل الأحزاب الدينية على الرغم أن الحزب يأتي في سياق تاريخي مغاير، تنظيم الإخوان مثلاً، كأول تجربة حزبية ذات طابع أممي في الإسلام السياسي، هو محاكاة شبه كاملة لأسلوب «الخلايا» المتبع منذ الأممية الثالثة بعد لينين، هذا بالإضافة إلى التوليفات العجائبية التي تسعى للحد من الجرح النرجسي للذات، والمندرجة تحت مزاعم الأسبقية، كحقوق الإنسان في الإسلام، والاقتصاد الإسلامي، والاشتراكية والديمقراطية في الخطاب الإسلامي، وعلى ذلك قس!! وبخلاف الروحانية المرتجاة في خطاب «ما بعد الحداثة» التي تسعى إلى تجاوز المنجز دون شطبه، تبدو جماعات الإسلام السياسي منبهرة دون اعتراف بالمنجز الغربي، إنها مأخوذة ومسكونة بلحظة الحداثة. ولأن الخطاب ونقيضه نتاج متبادل، فالإسلام السياسي سيتلوث بنفس الأوبئة والأمراض دون أي ورقة توت. إن التأصيل الإسلامي للمقولات الحداثية ليس أكثر من إعادة تشكيل، فمن جهة يتم اجتزاء المقولة لصالح نقاء الذات «المتخيلة طبعاً» ومن جهة أخرى الانحياز لصالح الشكل دون المضمون. الديمقراطية لدى الخطاب الإسلامي في أحسن حالاته، هي شورى أو مجرد صناديق اقتراع، وليست تعددية، مما يعني أن الإسلامي لا يجد أي تناقض فيما لو لجأ إلى الديموقراطية لنفيها، أما حقوق الإنسان فليست أكثر من ترس حماية وسيلة دفاعية لتأمين مصالح دون وطنية أو فوق وطنية، أي مصالح الطائفة أو الأمة المؤمنة العابرة للأوطان والدول. وصاحبنا يتغافل أو يتناسى أن حقوق الإنسان هي كذلك، فقط لأنها كونية. يترافق مع هذا التأويل التجزيئي والتشطيري لحقوق الإنسان، رؤية شمولية تستهدف إسقاط الخاص «الإسلامي- الديني» على العام «الكوني- المدني»، بحيث لا يخفي الخطاب رغبته التوسعية لابتلاع المحيط. ليس غريباً أن نجد مثقفاً إسلامياً عرف برصانته المنهجية، كمحمد باقر الصدر، الأب الروحي والمؤسس لحزب الدعوة، يدرج في «الأسس» التي تعبِّر عن أيديولوجيا الحزب، التوسع الإمبريالي الإسلامي كغاية استراتيجية، فالعالم كله هدف مشروع للنشاط الفكري والتجنيدي. الإسلام كما هو في منطوق حزب الدعوة طبعاً، ينبغي أن يسود العالم، دون أي تمييز واضح داخل الأسس التي كتبها محمد باقر الصدر، بين الخطاب بوصفه قراءة بشرية، نسبية بالضرورة، وبين النص، بوصفه ثابتاً متعالياً على التاريخ. الأمر الذي يضعه مع التأويل العنيف لأسامة بن لادن في سلة واحدة. هذا التواشج والتماهي بين خطاب عنيف «القاعدة» وآخر ناعم «الدعوة» يتأكد أكثر مع إدراك حقيقة أن النموذجين معاً هما حصيلة أزمة، حصيلة تراجع درامي من مسرح التاريخ. انتفض حسن البنا ليعيد الاعتبار لمسند «الخلافة»، وحاجج محمد باقر الصدر، وأخضع كل طاقته الذهنية، لإعادة الاعتبار لمسند «المرجعية». ثمة رغبة، تجمع بينهما، لاستعادة شيء ما: الخلافة هنا والمرجعية هناك.. ولا شيء آخر.