التراجيديا هي أسمى الفنون، هكذا طرحها وعبّر عنها فلاسفة الإغريق، وفلاسفة عصر التنوير ومفكروه ورواد الفن والجمال الذين صبغوا آراءهم وأطروحاتهم بأن انبعاث شعور الخوف والشفقة في مأساة الإنسان على شكل الفن التراجيدي -سواءً كان موسيقى صرفة، أو مسرحاً، أو تلفزيون- هو المرتبة الأعلى في الفنون، باعتبارها تعبيرات فكرية إنسانية متقدمة ومهذبة. سأنحصر هنا لأهمية الفكرة وتشعبها وأتحدث عن تراجيديا التلفزيون السعودي، أو عن جثمانها إن صح التعبير، لعل هذا الفقر المدقع في إنتاج دراما المأساة أو التراجيديا هو دليل صريح على أن الثقافة لدينا عرجاء، فلم تستقم ثقافة وفكر إلا واستقام معها الفن وازدهر، وهذه أثر لتلك. تخلّف الإنتاج السعودي عن ساحة الإنسان، واكتفى بتقديم التهريج -وليس فن الملهاة طبعاً- والذي يصنع جيلاً من مرددي “اللزّمات”، والذين يُقولب لهم ذائقة ساذجة، ويتم إبعادهم عن التواصل مع الشعور الإنساني وابتلائه بالآلام، وتحرره منها أيضاً، وتناقض الصورة الضيقة داخل المجتمع المتشابك، والارتقاء بمفاهيمه تجاه السمو والرحمة والإخاء والتعب مع المغلوبين. إن ابتعاد الكتّاب الأدباء والكتّاب القادرين على قراءة عذابات المواطن ومفاصله الوارمة عن ساحة التأليف الدرامي التلفزيوني، وركاكة اللجان التي تختار النصوص في الوزارة، والممثلين المنتجين شحيحي الموهبة والثقافة، اجتمعوا على جثة التراجيديا السعودية وعقروها. التراجيديا ليست تجميلاً للواقع، كما أنها ليس تعريةً غير منطقية له، إنها الإنسان، فقط يُقرأ كما هو، بمنظار نظيف وهو يمد عروقه تجاه كل سرداب في مجتمعه المعقد. إنه الإنسان السعودي، الفقير، المُتعب، المتشائم، البسيط، الضحوك، الذي يحب، والذي يكره، ويدخن، وتُطعن أحلامه من قرون الفساد. أظهروه.