عبد العزيز السماري - الجزيرة السعودية وماذا يبقى بعد أن يقتل الحاكم شعبه؟، كل شيء يذوب وينتهي ولا يبقى إلا التاريخ الذي سيستمر في ذاكرة الناس مثل الكابوس لقرن آخر، بعد أن شاهدوا قتل أطفالهم ونسائهم وآبائهم، وهل بقي شيء بين العقيد القذافي وبين شعبه، فقد قتلهم في كل مكان باسم الإرهاب والمسلحين والقاعدة، بينما تبث شاشات التلفزيون عشرات آلاف المتظاهرين المدنيين، يخرجون كل يوم يطلبون الحرية التي حِرمهم منها لأربعة عقود.. كذلك هو الحال في اليمن، والذي لازال الشعب يفترش الشوارع منتظرين ساعة الرحيل، والتي يبدو أنها حانت، ويبدو أن الحال في سوريا دخل في فصل مرير، فالأشلاء والدماء تنتشر في الشوارع، والرئيس يحاول أن ينهي المظاهرات بالقتل. لكن مع ذلك لم يتوقف الشعب عن الخروج إلى الشارع للاحتجاج، ولم توقف حمامات الدم الحراك الشعبي، ومازال الإصرار الشعبي على التغيير في سوريا واليمن وليبيا، ولنا أن نتساءل عن سر هذا التغيير الجبار عند الشعوب، وما الذي تسلل إلى عقولهم ليصبحوا أقوياء لهذا الحد، وهل ما يحدث طفرة عقلية في موقف شعوب المنطقة من حكامها أم أنها الشعور المتناهي بالذلة والمهانة أمام تحديات الفشل التنموي والهزيمة الحضارية، أم الأمر قد بدأ منذ عشرات السنين، وحانت ساعة التغيير. ما يحدث يدل على حقيقة واحدة، هي أن العالم العربي دخل في عصر جديد، ولا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الخلف، فالشارع صار يمسك بزمام الأمور، ولا بديل عن التغيير السلمي، فقد ولى عصر الانقلابات العسكرية في العصر العربي الجديد، وقد نستطيع القول إن الدورة العصبية لابن خلدون قد انتهى زمنها، بعد أن كان التغيير لأكثر من خمسة عشر قرناً من خلال الغدر والقتل والخروج المسلح. في تاريخ الثورة الفرنسية، ساهم مفكرو عصر التنوير في اندلاع الثورة الفرنسية؛ فقد انتقد مفكرو الأنوار الحكم المطلق وهاجموه، وأدت إلى تحولات سياسية وفكرية واجتماعية غير مسبوقة، وقد كان المجتمع الفرنسي على شكل هرم تراتبي يوجد في قمته طبقة النبلاء والإكليروس المستفيدين من عدة امتيازات، ثم الهيئة الثالثة المشكلة من البورجوازية الناشئة المحرومة من المشاركة السياسية، وتمثل الطبقة الكادحة أسفل الهرم، وكانت تعاني من ثقل الضرائب وأعمال السخرة. بينما كان التطور السياسي في الامبراطورية البريطانية مذهلا، فقد كانت الامبراطورية تسمع جيداً لمفكريها التنويريين، ولم تحدث مواجهة بين الحكم السياسي وبين المفكرين إلا أثناء ثورة كرومويل القصيرة نسبياً، فقد كان هناك نوع من التجانس بين السياسي والمفكر ليحدث التدرج في التغيير، وتتجنب الثورات الدموية على شاكلة الثورة الفرنسية، ولتخرج أعرق إمبراطورية دستورية في التاريخ، وتصبح مثلاً يُحتذى به في الحرية والديموقراطية. في زمن الثورات العربية، يحاول البعض أن ينفي أي دور للمفكرين، ولكن ذلك ليس على وجه الدقة صحيحا بإطلاق، إذ من الصعب إدراك ما يحدث تحت السطح من متغيرات في الوعي التراكمي للشعوب، فالإنسان يصل إلى درجة التغيير عند نقطة محددة، لكنه قد ينتظر وصول الآخرين إلى تلك الدرجة، ثم يحدث التغيير، وقد حفل تاريخ ليبيا في عهد القذافي مع المفكرين بكل أنواع العذاب والتهجير، كذلك هو الحال في سوريا، والذي يعيش أغلب مثقفيه في الخارج، وقد حصل شيء من ذلك في مصر أيضاً. خلاصة القول: إن للفكر التنويري تاريخا غير عادي في إحداث التغيير بين الشعوب، لكن الحل ليس في إقصائهم أو تهديدهم أو سجنهم، ولكن عبر الاتصال بهم والاستفادة مما يحاولون قوله في اطروحاتهم الفكرية والأدبية أو الفنية.