نشرت الصحف قبل فترة خبراً عن نية شركات التأمين الصحي في (ألمانيا) وضع خط ساخن للمرضى، للتبليغ عن الخروقات والمخالفات التي يرتكبها الأطباء، وعن أوجه الفساد في المجال الصحي. وحدثت خلافات بين نقابة الأطباء وبين اتحاد شركات التأمين الصحي، واعتبرت النقابة أن وضع خط ساخن وتحرير قسيمة مكتوبة عن مخالفات الأطباء هو حُكم مسبّق بالفساد على الأطباء عامة. الخبر قد يمرّ مرور الكرام وقد نُشر في صفحات المنوعات أو الصفحة الأخيرة من الجريدة؛ لكن معانيه مهمة ومؤثرة في تحقيق مبدأ الشفافية التي تسعى إليها الدول والمؤسسات الخدمية، فما بالكم لو كان الموضوع يتعلق بصحة وحياة ملايين البشر؟ وهو أسلوب حضاري، يضع كل شخص أمام مسؤولياته لأنه يشعر بالمحاسبة والتدقيق فيما يقوم به من أعمال، لذلك يكرّس جهده لكي يتقن عمله بكل أمانة ومسؤولية. ونظراً للواقع العربي المُعاش، وتذبذب المؤسسات الخدمية في تقديم مستوى جيد يرفع معاناة المستفيدين من هذه الخدمات، فإن «الخط الساخن» في الحالة الصحية قد يكون أحد الحلول لكشف الأخطاء وتقليلها. فلكم سمعنا عن «نسيان» جراح فوطة أو مقصاً في بطن مريض؟ ولكم سمعنا عن إنسان فقد بصره بعد أن أجرى عملية جراحية في العين، أو أنه فقد حياته لعدم كفاءة طبيب التخدير، أو -كما حدث في الأفلام- وجود جراح لعمليات مهمة وخطيرة في حالة سُكر! ولعلكم سمعتم وقرآتم عن القبطان الذي كان يقود طائرة -على متنها مئات الأشخاص- وهو أيضاً تحت تأثير الكحول! وكم انتظرنا نحن الغلابة الطبيب -بعد موعد لأكثر من شهرين- وعندما حضرنا إلى الموعد المحدد، نُفاجأ بأن الطبيب في إجازة، وهكذا لا بد من البحث عن موعد جديد، لربما بعد ثلاثة أشهر!؟ فماذا يعمل هذا المريض إن كان يعاني مرضاً خطيراً متطوراً، أو يعاني الآلام لفترة طويلة؟! نحن نعتقد أن «الخط الساخن» يجب أن يتوفر في كل المؤسسات الخدمية! ذلك لأن الرقابة قد لا تتحقق بحكم ضغط العمل، وأن كثيرين من الموظفين العامين يحاولون «لملمة» القضايا حتى لا تصل إلى صاحب القرار! فمثلاً، ماذا يُضير لو تم وضع خط ساخن مع بريد إلكتروني في كل المؤسسات الخدمية؟ مثلاً: التعليم، البريد، الصحة، البيئة، المرور، الإعلام، الثقافة، التجارة، وغيرها من المؤسسات التى لها علاقة مباشرة مع الجمهور؟! إن ثقافة الشفافية ما زالت بعيدة عن بعض المجتمعات العربية، التي أدمنت «حب الشوارب» و«الطبطبة»، و«الفزعات» والمقاربات الاجتماعية، بحيث يتعثر العمل وتضيع حقوق الناس حسب مزاج مسؤول، أو مزاج من هم أدنى درجة منه. إن سبب الفساد الذي ترزح تحته عدة دول عربية، ليس فقط في «الرأس»؟! بل في القاعدة الوظيفية والهرم الإداري. ولكن هذا لا يعفينا من التصريح بأنه توجد كفاءات عالية في بعض المؤسسات الخدمية تخاف الله، وتتعامل مع البشر بصورة راقية. هنالك إشكالية في العقل العربي، وهي عدم قدرته -لدى بعضهم- على الخروج من عباءة التاريخ ومقاربات الجغرافيا، وركونه إلى المهادنة والمجاملة وإخفاء الحقيقة في القضايا المهمة المتعلقة بحياة الأمة. نعم، هنالك حالات تم التحقق منها، خصوصاً في النظم الديكتاتورية الزائلة، التي لم تكن تصلها التقارير الشفافة عن الأوضاع في بلدها، وعولت تلك النظم على تقارير المخابرات التي تُصاغ بصورة لا «تصدع رأس الرئيس»؟! وكانت النتيجة أن انتشرت أصابع الفساد في كل المؤسسات، وضاعت حقوق المواطنين، وانتشرت المحسوبية والطائفية وتم تمزيق المواطنين حسب انتماءاتهم الدينية والمذهبية واتجاهاتهم الفكرية بل ومناطقهم الجغرافية في البلد الواحد. كما تم رهن مستقبل الأمة بيد مجموعة من المستأثرين بالقرار السياسي، مثل الحزب الواحد، الذي احتكر أعضاؤه المشاريع التنموية الضخمة ووزعها على بقية الأعضاء، والرؤوس الكبيرة التي تعمل من تحت الطاولة! وفي بلدان أخرى نجد سرقات بعض «ملوك الطوائف» للكهرباء والماء الخاصة بالدولة، هكذا في وضح النهار ولا تستطيع الحكومة فعل شيء، بينما تهديد قطع الماء والكهرباء يقع على رأس المواطنين الفقراء. ناهيك عن ثقافة «الرشوة» التي تنخر في بعض الأنظمة، وتجعل الموظف العام أسيراً وعبداً للرشوة وإلا لن يمرر المعاملة الكاملة. ولئن وصلت أخبار تلك الممارسات إلى السطح فإن المقاربات السياسية لا تستطيع منع استمرارها، نظراً لغياب القرار السياسي والإداري الناجح والمؤثر. ولعلنا نتذكر عندما كنا نعبر الحدود بين الدول العربية، ونجد لافتات ضخمة فوق رؤوس موظفي الجمارك والجوازات تقول: الرشوة تؤدي إلى السجن!؟ لكنك لن يُسمح لك بالمرور أو لسيارتك بالدخول ما لم تقدم الرشوة وتعطيهم المقسوم. هذه هي إشكالية العقل العربي في بعض المناطق الجغرافية! التي وصلت إلى الثقافة أيضاً! فالمسؤول الأول عن الثقافة قد لا تصله معاناة المبدعين المُبعدين! بل وقد لا يلتفت إلا إلى ما تمليه عليه وظيفته بعيداً عن السياسات العامة التي تضع الثقافة في مصاف الدستور الذي يشكل الإنسان اعتماداً على مبادئ الحرية والحق والجمال وتنمية المجتمع، وحق المبدع في أن يكون له المناخ الملائم كي يمارس حقه في الإبداع ودوره في خدمة المجتمع، بعيداً عن الممارسات الإدارية أو حالات الإقصاء التي يمارسها بعض الإداريين في هيئات الثقافة. أقول نحتاج إلى «خط ساخن» في كل المؤسسات والهيئات التي تتصل مباشرة مع الجمهور. لأن المعانين والصامتين أكثر عدداً من هؤلاء الذي يدبجون عبارات المديح دون وجه حق.