ما أصدقك أيتها الآلة، وما أعدلك! ما أوضح نتائجك، وما أدقها! وما أحظى من قدَّر الله لهم الامتحان على يديك، فلا ظلم ولا انحياز ولا تبخيس ولا تطفيف! الامتحان قياس لما اكتسبه الممتحَنون من معارف ومهارات، ولا معنى للقياس من دون تصور مدلول آلي للقياس، وقد تكون هذه الآلية عقل الإنسان وحواسه، ولكن عقل الإنسان وحواسه لن تكون أداة قياس دقيقة ما لم تتصف بحياد الآلة وتجرُّدِها من الضعف الجسدي والنفسي والأخلاقي. الآلة لا تَتْعب ولا تُحِب أو تُبغِض ولا تجامل، الآلة بلا انتماء عنصري بأي معنى، وبلا طبقية بكل دلالة، لأنها قوة بذاتها! هذه هي الآلة حين تكون أداة قياس ووزن وضبط وتنظيم، وحين تكون إحصاء وحساباً وجمعاً وتقسيماً، أو رؤية مجهرية أو ما يشبه ذلك. وليست امتحانات القياس والتحصيل إلا استثماراً لهذه الصفات الآلية في الكشف عن مكتسبات الطلاب التي استقرت في خبرتهم وذاكرتهم، فلم تبق مذاكرة امتحان يتم نسيانها بعد أداء غرضها. ولئن كان هذا هو الهدف من الامتحان منذ وُجِد، فإن في لفظ الامتحان أو مرادفاته ومشتقاته معنى الرغبة في اكتشاف حقيقة الشيء وصدقيته وتمييزه عن غيره. فنحن منتظرون من امتحان التحصيل ما يكشف الغطاء عن مستوى طلابنا، بأصدق دلالة على الحقيقة، وأجسرها، لأن الآلة هنا هي الممتحِن الذي يقوم الطلاب بأداء الامتحان له. ونتائج الامتحان -في ضوء ذلك- عديدة، فهو لا يكشف عن مستوى الطلاب فقط، وإنما عن نجاعة النظام التعليمي برمته. عن مهارة المعلِّمين وقدرتهم في إكساب الطلاب المهارات والمعارف المستهدفة في المناهج والمقررات، وعن المناهج والمقررات في طواعيتها للتحول إلى تلك المكتسبات وشمولها لها. أيُّ مدارسنا أكثر امتيازاً؟ وأي طلابنا أقرب إلى الرضى؟ ما الفرق بين نتائج مدارسنا الأهلية والحكومية والحكومية النموذجية؟ ما الفرق بين طلاب القرى وطلاب المدن؟ هل تتطابق نتائج التحصيلي لطلاب المرحلتين الابتدائية والمتوسطة مع نتائج القياس لخريجي المدارس الثانوية؟ هل ستفيد وزارة التربية فعلاً من هذا الامتحان؟ ما بالها -إذن- لم تُفد من قياس طلاب الثانوية المطبَّق منذ أكثر من عشر سنوات؟! لقد كان من المنتظر من مقام الوزارة أن تميِّز بين المقتدرين والجادين وبين سواهم من معلميها. وإن هذا النوع من الامتحانات لجدير أن يوظَّف للتمييز بين المعلِّمين بتطبيق نظام مستويات متدرِّجة يتم إحلالهم فيما يستحقونه منها، وبإتاحة الفرصة للفوز بعلاوات مسبَّبة عن التفوق الذي يكشف عنه التحصيل والقياس وليس -فقط- رضى مدير المدرسة أو مشرف الإدارة التعليمية. إن أقوى الأسباب لافتقاد حماس المعلمين وتفانيهم هو -فيما أرى- افتقاد نظام الترقية والمكافأة في السلك التعليمي للمحك الصحيح الذي يقوم على حساب نتائج الأداء فعلياً. وبالطبع فلن يكفي هذا النظام مالم يجد الطراز الأميز من المعلِّمين بيئة تعليمية وقانونية تحمي صرامتهم ممن يأخذ امتيازه من الطلاب وذويهم بذراعه.