صديقي وليد رغم كل ما يتحلى به من الصفات الحسنة ورغم سقف ثقافته العالي ووطنيته الصادقة، يعيش في دائرة احترامي وتقديري لأسرته العريقة وعلى وجه الخصوص والده -رحمه الله وأنزله فسيح جناته- الرجل الذي غرس في ذريته وفي من حوله المعنى الحقيقي للوطنية، وزرع في وجدانهم أكثر من قيمة إنسانية وثقافية تستحق التقدير، في بعض المواقف الحوارية المباشرة مع وليد، وهي محدودة بحكم التباعد الجغرافي الذي لا يكسره سوى زياراتي المتقطعة لقريتي المتحركة عشوائياً في حضن الجبال، أعجز في الحقيقة عن فك الاشتباك بين رؤية صديقي وليد تجاه بعض القضايا الاجتماعية السلبية وبين ما سمعت من والده تجاه بعض الشؤون المشابهة. الشاهد، أن وليد يتقاسم مع أمثاله من الشرفاء حب هذا الوطن، ويشترك معهم في وجوب الاعتزاز بالمكتسبات الوطنية والحفاظ عليها على الأصعدة كافة، وهناك كما يبدو عقد شراكة وطنية مكتمل الأركان لاحترام أبناء الوطن كافة دون تطفيف في ميزان الاعتبار والقبول، في عمق قناعات (وليد) مكان واضح للوحدة الوطنية من حيث الوجوب والضرورة، لِمَ لا والوحدة الوطنية من أوجب الواجبات في كل زمن بما لها من قوة في رعاية الكيان وتجويده، إضافة إلى كونها دون أدنى شك تمثل لكل ذي عقل سليم ضرورة كمصدر مهم لتحريك التنمية وتوفير الاستقرار بسكينة وثقة، وفي ذلك من الفوائد المتعددة ما يدفع العقول الرشيدة إلى السعي في سبيل تحقيقها. على هامش زيارتي الأخيرة التقيت به ودار أكثر من حوار دون الوصول إلى تحديد دقيق للعلة التي أصابت بعض فئات المجتمع، ولم نتفق على تسميتها باسمها كما يجب. ومما يلزم ذكره أنني استغللت كرم الوجيه -صديقنا المشترك (أبو حمد)- وقطعت الحوار بالعودة على أول طائرة إلى عروس البحر الأحمر، والتقيت بسحرها صباحاً وعانقت شالها بود. غادرت وفي خاطري شيء أود قوله لوليد -وأظنه قد حان وقته. في البداية أقول اعلم يا صديقي أن المُحَبطِين بين كل جمع وقوم يسيرون، تارة يحركهم سعير الحسد وتارة تحركهم الاضطرابات النفسية المُصدرة من فشلهم في الحياة المنتهي بعدائهم للنجاح والتوجس من التغيير إلى الأفضل، فلا تُعر أهل البضائع المكشوفة بالاً، فقط استدِر قليلاً للتاريخ وقلب صفحاته ولن تغيب عن فطنتك بعض دواعي وأسباب هذا الارتباك الاجتماعي وخلافه، المسألة في أبسط صورها تسرد قصة خلو الصيدلية المجتمعية من تحصينات القيم والأعراف، إلى جانب التنكر لقاموس المعاني الاجتماعية ومفردات الترتيب والمكانة، وزِد على ما سبق ذكره عامل البعد عن أرض الواقع والتجديف في الفضاء. انظر يا صديقي إلى فيئة الارتداد إلى الهوية الماضوية من ناحية، وانظر إلى تلك القطعان الهاربة أصلاً من الهوية ليس لغرض الانفتاح بل لإخفاء درجة الترتيب في سلم المنزلة وتوابع أخرى، الأولى تسعى إلى العودة بالناس إلى داخل الصندوق وتحريك التراكمات، والثانية تريد الهروب والقفز على التاريخ لطمس حقائق السير الذاتية وثوابت المكانة الاجتماعية للتعبير عن الشعور بالنقص، والضحية في كل الأحوال هي الطبقة الوسطية ذات العرف والمعروف والمكانة الرفيعة والاتزان النفسي عبر الأيام، ومثقفو هذه الفيئة تحديداً كما تعلم يصطدمون بفراغ فكر فيئة الارتداد إلى الهوية الموغلة في الماضي من جهة واضطراب فكر القطيع الهارب من تفاصيل الهوية أصلاً لإثبات الذات على حساب الواقع وسجلات التاريخ من جهة أخرى. من الظواهر المفزعة في حاضر الأيام يا صديقي أن معظم الأماكن على الخارطة الجغرافية مفرغة من وسم العامة، كل الناس بدرجة شيخ بالادعاء، بالتزامن مع وجود نفر ممن يدعون المعرفة ويطرقون نوافذ الثقافة بأدوات تترنح في طريق إلى مفهوم لمجرد إثبات الحضور، التنظير قائم والنقد مستمر في محيطهم، والنتيجة في غالب الأحيان تكشف عن فراغ فكري ضخم وتشتت ذهني متقدم. والحقيقة مع ذلك تقول إن ثمة مؤشرات صراع خفي يتكئ والله أعلم على مشادات تاريخية يصاحبها غياب واضح للثقة في النفس، وبهذا المؤشر تأمل ما شئت ولا تفكك الجماجم الصدئة! واعلم -رعاك الله- أن البضاعة انكشفت في سوق حطابة الليل، ولدواعي التفاؤل لا تهتم.. القافلة تسير.. والسلام ختام.