بعض المقالات مهما تقادمت تبقى حاضرة في الذاكرة بصرف النظر عن صفة الكاتب الشخصية، وذلك وفق ما أعتقد، مبرراً بعدة أمور؛ على رأسها ارتباطها المباشر بما يدور على الساحة وقت إيداعها في حساب الرأي العام، أو لملامستها شأناً مسكوتاً عنه في وقت تفرض طبيعة الأحداث الجراءة باحترافية العقلاء على الحديث لأغراض ذات طابع نفعي عام، ومما يمكن الاستناد عليه في قوة حضور بعض الكتابات إصابتها كبد الحقيقة بذخيرة المسؤولية الوطنية المخلصة، وفي كل الأحوال يظل استمرار ظهور الحدث المحرك أو الباعث لنشرها على قيد الوجود سبباً في حضورها وتداولها والاستشهاد بها كلما هبّت العاصفة، ومن تلك المقالات العصية على الزوال على الأقل من ذاكرتي مقال للدكتور عبدالعزيز الخضيري نُشر في صحيفة «الاقتصادية» قبل أكثر من ألف يوم بعنوان (من ينحر كفاءتنا الوطنية؟). الكاتب في حدود قناعتي التي لا أفرضها على أحد يغرس شجرة الحوار الواعي في المواسم المناسبة بإخلاص الوفي ومعرفة المتمكن. في البداية وتحت تأثير تأمل قيمة الموارد البشرية المؤهلة في السوق المهني والاتجاه الدولي لاستثمارها من بوابة التقدير والعرفان والرعاية الموازية للتميز في أقل الموازين، وما تحقق من عوائد تقدمية بفضل هذه الاستراتيجية في عديد من البلدان المزدهرة اليوم، رصد الكاتب عنوان القرن الواحد والعشرين من وجهة نظره المختلطة مع وجهة نظر الأمم العاشقة للنجاح المتفقة على دعم الاستثمار في الكفاءات الوطنية كخيار لمواجهة التحديات وضمان استمرار النهضة وتحسنها، وتحرش بالمسألة محلياً في هيئة نبش خفي في ذاكرة الأيام متبوع بحوار تسيطر عليه الاستفهامات الحادة الموغلة في التجرد وحب الوطن. يقول في صدر المقال عن تدمير الكفاءات بالطريقة المحلية وقد تلبَّسه الألم، الحديث طويل ومعقد عن الوضع الذي نراه عندنا في المملكة من خلال تسلط بعض المسؤولين التنفيذيين في بعض قطاعات الدولة، الحكومية والأكاديمية وبعض مؤسسات القطاع الخاص، للتخلص من الكفاءات السعودية المدربة والمتعلمة، ليس لسبب إلا اعتقاد مثل هؤلاء المسؤولين التنفيذيين أن تلك الكفاءات السعودية الوطنية المخلصة تمثل تهديداً لمواقعهم الوظيفية، ويرى أن هذه العيّنة (المضروبة) من المسؤولين، عبارة عن أقزام لا تملك من القدرة والخبرة إلا الحرص على جعل جميع العاملين معهم عبارة عن دمى يحركونها كيفما يشاؤون ولا يقبلون منهم الرأي أو الاقتراح، وينتهي في هذه الجزئية إلى أن أقزام الإدارة يفضلون الموظفين فئة (السيد والسيدة نعم)، ويبحثون عمَّن هم أقزم منهم حتى يبدوا بجانبهم عمالقة، رأياً وقراراً وإدارة. وإلى ذلك يشير بصراحة التصنيف، إلى أن المسؤولين التنفيذيين الذين تنطبق عليهم نظرية الأقزام الإداريين هم مجموعة لا تملك القدرة على احتمال الرأي الآخر، قلوبهم سوداء، ويعتمرون قبعة فرعون على أساس أنهم لا يرون للآخرين إلا رأيهم ولا يقبلون منهم أي رأي، وعند الخروج عن هذا النظام تصبح تلك الكفاءة السعودية الوطنية محط الرقابة الصارمة، يبحث لها عن أي خطأ مهما صغر لاستغلاله وتعظيمه على أساس أن (عين السخط تبدي المساوئ). ثم ينتقل مباشرة إلى آلياتهم الخبيثة فيقول، هذه القلوب السوداء تنقل الصورة الكاذبة إلى صاحب القرار في المؤسسة المعنية، وتدفع به مع الوقت إذا لم يكن من أتباع نظرية الأقزام إلى الاقتناع بعدم ملاءمة تلك الكفاءة بناء على المعلومات المغلوطة التي قدمها القزم التنفيذي المتسلط. ومن مجريات حواره مع الذات عن الحالات التي يمكن استحضارها كنموذج لهذا التدمير الوطني للكفاءات السعودية المخلصة، يتساءل الدكتور الخضيري في حضور الدهشة عن تحليل شخصية من يقف خلف القضية في الجهات المهنية، وعن كيفية شخصياتهم والعوامل المشتركة التي تجمعهم وقدرتهم على تحطيم تلك الكفاءات ثم نحرها حتى الموت وربما الموت البطيء أحياناً. يستطرد د. الخضيري، ويقول، إذا كنا اليوم نحاول في المملكة وضع قدم مع دول العالم المتقدم من خلال الدفع بالكفاءات الوطنية المتميزة والمخلصة للقيام بتحقيق هذا الهدف الوطني النبيل المستحق، فلماذا نسمح في المقابل بتقدم أقزام العطاء على عمالقته؟ ولماذا نسمح لأصحاب فرعون باغتيال الكفاءات؟ وفي السياق أقول، الأسئلة كبيرة ومطلة على واجهة البنية التحتية لمشروع الانزلاق إلى الحافة، والخطر الحقيقي في غياب الإجراء العملي للمواجهة.. ودمتم بخير.