جوبا – محمد الغامدي, عبدالنبي شاهين الحلقة الأولى الحلقة الثانية الحلقة الثالثة الحلقة الرابعة بدأت رحلة «الشرق» إلى دولة جنوب السودان بمعاناةٍ لازمت مراسليها منذ أن وصلوا إلى مقر سفارة جوبا في الخرطوم، ثم استمرت المصاعب في مطار العاصمة الجنوبية، مروراً بالبحث عن فندق ومحاولة التقاء المسؤولين الرسميين. ذهبت «الشرق» إلى جوبا لرصد تفاصيل دولة ناشئة تبحث عن فرص الاستثمار والظهور عبر وسائل الإعلام، كما يقول وزير الإعلام في حكومتها برنابا بنجامين. وخلال هذه الرحلة اختلطت الجوانب الإنسانية والاجتماعية بما هو سياسي واقتصادي، كما لم يكن البُعد التاريخي غائباً، تحدثت «الشرق» إلى مسؤولين في الحكومة وإلى مواطنين، وتعرفت على حجم المشكلات والتحديات التي تواجه هذه الدولة، وحاولت استشراف مستقبلها القريب. بعد عطلة نهاية الأسبوع بدأت أنا وزميلي رحلة البحث عن رئيس جنوب السودان ونائبه، وكانت وسيلة تنقلنا إما السير على أقدامنا وسط درجة حرارة مرتفعة أو أن نستخدم ال «بودا بودا» وهي الدراجة النارية، إذ لا توجد سيارات أجرة في جوبا، ولم نرَ طوال رحلتنا سوى سبع سيارات تمر صدفةً من شارع الوزارات، حتى في المطار ليست هناك سيارات أجرة. انطلقت وزميلي يوم الإثنين على متن ال «بودا بودا» إلى وزارة الإعلام للسؤال عن الترتيبات اللازمة، ولكن طُلِبَ منا أن ننتظر كي نلتقي الوزير، وبعد انتظار لنصف ساعة في مكتبهِ خرجنا إلى مجلس الشعب للبحث عن رئيس البرلمان والحديث معه عن الانتخابات وعدم مشاركة المسلمين فيها، وإبعادهم عن السلطة. أخبرونا هناك بأننا بحاجة إلى تحديد موعد مسبق، تركنا أرقام هواتفنا المحلية والدولية ليتواصلوا معنا متى ما تم تحديد الموعد، ولكن إلى اليوم لم يتم تحديد موعد، لم نسمع رنّة هاتف تخبرنا بأنه حُدِّد لنا موعد، لسببٍ بسيط بدا لي منذ أول يوم التقيت فيه وزير الإعلام، وهو أن الأمور غير مبرمجة لديهم و»أنها تسير بالبركة». على باب مجلس الشعب، التقينا وزير الاستثمار، صافحناه بينما كان على وشك ركوب السيارة، أبلغناه «إننا من السعودية وطلبنا من وزير الإعلام ترتيب موعد لمقابلتك»، قال: «نعم لديّ علم بذلك»، حاولنا أن نجري اللقاء معه سريعاً، ولكنه اعتذر موضحاً أنه ذاهب لاجتماع مع الرئيس، وقال: «سنتصل بكم». وجود إسرائيلي تجولنا بعدها على المتاجر والفنادق الصغيرة منها والكبيرة والمناطق السياحية والمتنزهات في جوبا، جميعها توحي بسيطرة العنصر الأثيوبي والصومالي بشكل واضح، وإن كان الأثيوبي هو الأبرز، هو المسيطر على التجارة في البلد. كما تؤكد مؤشرات عديدة على الوجود الإسرائيلي القوي في جنوب السودان سواءً اقتصادياً، وهو المحور الرئيس، أو سياسياً أو على مستوى التبادل العلمي والزراعي. ويوجد عديد من الخبراء الإسرائيليين في مجال الزراعة والري هنا، هذا هو المعلن رسمياً، فضلاً عن خبراء عسكريين وأمنيين، ووجود هؤلاء ليس معلناً بطبيعة الحال، ضف إلى ذلك عقد صفقات الأسلحة بين الطرفين وتدريب ضباط الجيش الجنوبي في أوغندا وأثيوبيا وكينيا وداخل جنوب السودان نفسه بواسطة خبراء عسكريين إسرائيليين. وكانت إسرائيل قد استقبلت خمسة آلاف عنصر من دولة الجنوب لتدريبهم عسكرياً قبيل الانفصال عن الشمال بغرض التعامل مع مرحلة ما بعد الانفصال، كما يقول كتّاب ومراقبون سياسيون من شمال السودان. الأمن القومي العربي جوستن ميان غير أن السؤال الذي يطرح نفسه دون أن تكون له إجابات قاطعة هو مدى تأثير الوجود الاستخباراتي والأمني والعسكري الإسرائيلي في جنوب السودان على مجمل الأمن القومي العربي. وتشير تقارير صحفية إلى اتجاه جهاز المخابرات الإسرائيلي لافتتاح مركز إقليمي له في جوبا، وهو ما يمثل تهديداً أمنياً خطيراً ومباشراً للأمن القومي العربي. ويقول المحلل السياسي الجنوبي، جوستن ميان، إن دولة جنوب السودان تمثل خياراً إستراتيجياً لإسرائيل لأنها ستساعدها كثيراً في حل مشكلة نقص الطاقة الذي تعانيه، فضلاً عن رغبة تل أبيب في أن تحصل على مياه النيل، وأن تستخدم هذه العلاقة مع الدولة الجديدة كورقة ضغط على مصر والسودان. من جانبه، يرى الباحث المصري سامي عبدالقوي ضرورة الحذر من نتائج التقارب الشديد بين إسرائيل وجنوب السودان والعمل على شل فاعليته من خلال رسم إستراتيجية عربية متكاملة تستهدف دعم العلاقات مع جنوب السودان في مختلف المجالات بهدف تفويت الفرصة على إسرائيل للانفراد بتلك الدولة الوليدة والتأثير على توجهاتها وأنماط علاقاتها تجاه دول بعينها في المنطقة. تطمينات رسمية لكن وزير خارجية جنوب السودان، نيال دينق نيال، يؤكد أن العلاقات بين بلاده وإسرائيل ليست موجهة ضد مصر أو أي دولة عربية أخرى لعدة عوامل في مقدمتها العامل الجغرافي، قائلاً «نحن أقرب لمصر من إسرائيل، مصر وجنوب السودان جزء من منطقة واحدة، وهناك مصالح مشتركة، ولا يمكن أن تضار هذه العلاقات، نتيجة العلاقات بين جوبا وتل أبيب». أما نائب رئيس جنوب السودان والرجل الثاني في حزب الحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب، الدكتور رياك مشار، فيشدد على انفتاح الدولة الجديدة على كل العالم بما فيه إسرائيل «خصوصاً أننا نحتاج للتنقية الإسرائيلية في مجالي الزراعة والمياه»، حسب اعتقاده. اتفاقات مع إسرائيل ورغم تصويت جنوب السودان داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة على منح فلسطين صفة عضو مراقب، إلا أن ذلك الموقف قوبل داخلياً بموجة غضب من الجنوبيين الداعمين لإسرائيل ما اضطر الناطق باسم وزارة الخارجية في جوبا، ميوم ألي، إلى التأكيد في تصريحات صحفية محلية على أن الموقف الرسمي للدولة كان الامتناع عن التصويت لصالح فلسطين كما فعلت ألمانيا ودول أخرى، لكن مندوب الدولة ولظروفٍ خاصة لم يتمكن من نقل هذا الموقف بصورة دقيقة، وهو خطأ يتحمله المندوب. ومؤخراً، أُعلِنَ رسمياً في تل أبيب وجوبا أن حكومة جنوب السودان وقعت اتفاقية اقتصادية مع إسرائيل وصفها خبراء ومهتمون بأنها أكبر اتفاقية دولية توقعها حكومة الجنوب، وجرى التوقيع في القدسالغربية بين وزير الطاقة الإسرائيلي، عوزي لانداو، ووزير الري والموارد المائية الجنوبي، بول مايوم. وتنص الاتفاقية على إنشاء مشاريع ضخمة فى مجالي الزراعة والري وتوصيل مياه الشرب لتزويد المنازل الواقعة على ضفاف النيل بالمياه باستخدام مولدات تعمل بقوة دفع المياه «الهيدروكلوريك» لعدم توافر الكهرباء في الجنوب. وترمي الاتفاقية على المدى البعيد إلى تنفيذ سلسلة من السدود على الفروع المغذية ل «النيل الأبيض» لتوليد التيار الكهربي. وفيما وقعت شركة الصناعات العسكرية الإسرائيلية اتفاقية تعاون مشترك فى مجال تحلية المياه مع الوزير الجنوبي، نقلت وسائل إعلام إسرائيلية أن الاتفاقية تشمل التفاهم حول نقل البترول لتكريره فى إسرائيل. ويقول المحلل السياسي الجنوبي والأكاديمي، الدكتور جيمس ألور، إن جمهورية جنوب السودان دولة مستقلة وذات سيادة ولها الحق في بناء علاقات خارجية مع أي دولة في العالم وفقاً لمصالحها بما في ذلك إسرائيل وإن على العرب ألا ينزعجوا من هذه العلاقة لأنها عادية جداً وأقل من عادية إذ لا توجد حتى الآن سفارة إسرائيلية في دولة جنوب السودان. ويتهم ألور الإعلام العربي بتضخيم الأمور رغم أن هناك دولاً مجاورة مثل: كينيا ويوغندا وأثيوبيا تتمتع بعلاقات جيدة مع إسرائيل فضلاً عن بعض الدول العربية كمصر والأردن. السفير الإسرائيلي توعز وزارة الخارجية في إسرائيل لعددٍ كبير من الشركات الإسرائيلية بالتوجه إلى جوبا لتنفيذ مشاريع بذريعة «مساعدة الدولة الوليدة على تطوير البنية التحتية». وتولي تل أبيب اهتماماً بالغاً بعلاقاتها بجنوب السودان، خصوصاً عقب تعيين حاييم كورين، أحد عملاء الموساد، سفيراً غير مقيم في جوبا. وكانت جمهورية تركمانستان قد رفضت في يوليو الماضي وللمرة الثانية قبول اعتماد كورين سفيراً لإسرائيل لديها، وعللت موقفها حياله بالقول إن كورين ليس دبلوماسيّاً؛ بل «عميل للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد)» . ونُقِلَ عن وزير الخارجية التركمانستاني القول إنه لم يقبل أوراق اعتماد كورين الذي اختير في أغسطس 2010 لشغل هذا المنصب لأن سيرته الذاتية تؤكد أنه أمضى ثلاث سنوات مدرساً في كلية الأمن الوطني في غيلوت ما يثبت أنه كان عضواً في الموساد أكثر من كونه دبلوماسياً. العرب لا يهتمون أتيم قرانق بدوره، يقول زعيم الأغلبية في برلمان جنوب السودان، أتيم قرنق، إنه لا يعرف لماذا يتخوف العرب من العلاقات بين بلده وإسرائيل، مضيفاً «الدول العربية لم تسعَ لصنع علاقات مع جنوب السودان ولم تبد أي اهتمام، على العكس نجد دائماً أن العرب يقفون مع دولة السودان في الحق والباطل ولا يسعون لإيجاد علاقات جيدة معنا، فماذا نفعل سوى أن نسعى إلى الآخرين بما في ذلك إسرائيل؟». ويذكِّر قرنق بأن إسرائيل دعمت جنوب السودان في كل مراحل نضاله الطويل منذ عام 1955 حينما تمردت حركة أنيانيا وحتى عام 1983 حينما تأسست الحركة الشعبية لتحرير السودان (الجيش الشعبي)، متوقعاً أن تتطور العلاقات بين البلدين في المجالات الدفاعية والتجارية، ولافتاً إلى مساعدة إسرائيلية في تدريب الكوادر البشرية الجنوبية. في السياق ذاته، يصف المحلل السياسي الجنوبي، كور متيوك أنيار، العلاقة مع إسرائيل بأنها ذات أهمية كبيرة لجنوب السودان لعدة أسباب منها أن إسرائيل تعد واحدة من رواد صناعة الأسلحة في المنطقة ونظراً لإمكانية مساعدتها في تطوير قدرات الجيش الشعبي العسكرية. ويجمع بين الدولتين الشعور المشترك ببغض من العرب لهما، وبالتالي يرى بعض المحللين السياسيين أن إسرائيل ستتجه نحو جنوب السودان كلما واجهت المشاعر العربية المعادية لها. فيما تفيد تقارير غير رسمية إلى سعي إسرائيل لإنشاء قاعدة جوية في منطقة فلوج النفطية بجنوب السودان بهدف تدريب الطيارين الحربيين الجنوبيين، كما تعتزم إسرائيل بناء ثكنات لقوات الحدود ومستشفيات عسكرية وإنشاء مركز بحوث للألغام في جوبا. كما تسلمت استخبارات الجيش الشعبي ووحدة الأمن الرئاسي في دولة جنوب السودان مؤخراً أسلحة إسناد حربية وكمية من أسلحة المدفعية وعدداً من الراجمات وأجهزة للرصد والاستشعار الحراري مقدمة من إسرائيل، وقد وصلت الشحنة، طبقاً لتقارير صحفية نُشِرَت مطلع يناير 2012، عبر الحدود الأوغندية إلى داخل جوبا. حوالة لم تصل أصابني الملل في جوبا لعدم انتظام المواعيد واللقاءات الرسمية، قلت لزميلي بعد أن واجهتنا أزمة مالية أن علينا أن نتجه إلى البنك كي نصرف الحوالة التي أرسلتها لنا الصحيفة عبر شركة تحويل أموال عالمية، استقلَّ كلٌ منا دراجةً نارية واتجهنا إلى وسط جوبا كي نصرف الحوالة، بمجرد دخولنا البنك واجهنا زحامٌ شديد، انتظمت في الصف لأسأل مَنْ جاورني «منذ متى وأنت تجلس هنا؟»، قال «منذ الساعة التاسعة»، الساعة الآن الحادية عشرة والنصف، أضاف «انقطعت الكهرباء مرتين خلال الساعتين الماضيتين»، لم يكمل جملته حتى توقفت جميع الأجهزة وتوقف العمل بعد أن انقطعت الكهرباء مرة ثالثة، وبعد خمس ساعات من الانتظار مع بطء العمل وصلني الدور لأقف أمام الصراف الذي قال، بعد أن تسلم جواز سفري ورقم الحوالة: «لم تصل هذه الحوالة»، عدت وزميلي بخيبة أمل. مواطنون من جنوب السودان يرفعون علم إسرائيل