ما الذي يجعل هؤلاء الناس يتنافسون في درجة الدكتوراة ليستكثروا بالأسماء حتى لو كانت (فالصو)؟ وأي عقل بليد هذا الذي يروج للكذب ويجعل له سوقاً رائجة، وهو كذبٌ يناقض كل قيمة للعقل؟ كيف يحدث هذا التخليط المرضي إلى الدرجة التي تتحول معها الدرجات العلمية إلى بضاعة رائجة للمزايدات الجاهلية، فلا يتبقى إلا (دكاكينها) البائسة، تقول لنا: «عرج إلى هنا، الدرجة التي تريد بالسعر الذي تريد»، هذا اللي ناقص! أليس معمل الكذب الأكاديمي، أو شقة الطامحين الكذابين التي كتبت عنها (الشرق) الأسبوع الماضي معدودة من مآسي عقلنا العربي؟ إذا كنَّا نقول إنَّ كل نزاهة العلم لا تنبني إلا على ضمير العلم، فأين هو ضمير العلم إذاً؟ ليس هناك قوة تحتال على ضمير العلم هذا، إلا قوة العقل المرضية، إلا سطوة المفاخرة وسطوة الكذب الاجتماعي الذي يكاد يحوِّل العلم إلى حِلْيَة للزينة. إن قيمة العلم المحايدة عدو لهذه الجاهلية، هذه أزمة يقع فيها الضمير، وهي شديدة التعقيد؛ لأنَّ الضمير يفقد معها حتى الحياء من نفسه ويفقد معها أيضاً – لوقوعه في أسر الاستكثار – ما يمكن أن يحمله على الإحساس بالإثم أو تأنيب نفسه، وهذا ضمير في الواقع لا يمكن أن يوثق به أو أن يكون ضميراً مصطلحاً مع اقتضاءات العلم، فضلاً عما يرجى من فيوضات العلم العبقرية. ما الذي يضطرنا إلى هذا ؟ درجة الدكتوراة ب(50) ألف ريال والماجستير أدنى بقليل، ثم البكالوريوس أدنى بقليل، حتى بلغت هذه النزعة المخربة شهادات اجتياز «التوفل» وأيضا الشهادات المهنية لمهارات الحاسب الآلي. هل من المعقول أن تكون هذه الوثائق الكاذبة للدرجات الكاذبة قد تجاوزت (16) ألف وثيقة لمختلف الدرجات العلمية؟ إنَّ هذه النوعية من الناس التي تجعل للكذب سوقاً هي أشد خطراً من الكذب نفسه، ذلك أن الكذب في العادة يكون لأجل الخوف أو الحذر أو إلحاح الحاجة، أمَّا هؤلاء فإنهم ينسفون هيبة العلم ويريدون أن يضللوا الواقع بهزالهم العلمي ويفقدوه الثقة في معنى وقيمة الدرجات العلمية النزيهة التي بسقت أشجارها في عرق الهم والمجالدة والصبر والجهد. هناك سؤال مهم عما يؤمله هؤلاء؟ الذي أتصوره أننا نبالغ في قيمة الدرجات العلمية، ولا يحدث هذا – في العادة – إلا عند العقل قريب العهد بالأمية، عند العقل الأمي، هذا العقل من طبيعته أنه يفهم العلم بوصفه شيئاً يمكن امتلاكه، أي أنه يحول العلم إلى شيء محسوس محدود غير مطلق، وأنه يمكن أن يقع في قيد ورقة بائسة مهترئة تبرر الكذب حتى على النفس. والحقيقة أننا بحاجة إلى أن نفهم أنَّ العلم أوسع من العقل البشري كله، وأنه يستعصي على العقل الاستهلاكي. وأزمتنا – كما أتصور – مع الدرجات العليا أنها تحولت في أذهاننا إلى أوهام متصورة للقيمة، فهي بهذا لم تعد تختلف عن أوهامنا المتصورة لقيمة تعصباتنا القبلية.. للأسف.