الباحة – علي الرباعي ما زلت أذكر حزني على فراق أغنامي حين قرر الوالد نقلنا إلى المدينة لو كان الأمر في يدي لاخترت أن أعيش في العصر العباسي حين قررت الزواج رحت أبحث عن امرأة فيها شيء من ملامح أمي تمنيت لو عشت في القاهرة خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم كتب تركي العسيري القصة والمقالة، وجمع بين رومانسية العاشق وهدوء الحكيم، متفاعلاً مع كل من يتواصل معه. ربما لم يخطر في باله أن أُعيده إلى الذاكرة طفولة وشباباً ونصاً وشخصاً. من خلال تردده لمستُ أن الماضي يملأه بالحنين، خصوصاً أنه سكن مبكراً بيشة، مدينة النخل والماء والعيشة، إذ كان الأقدمون يرددون «ما ورا بيشة عيشة»، إلا أن الجفاف طاول معشوقته السامقة بنخيلها، والسخيّة بوجوه رجالها، فنكأت جراحه بالحديث عن الحب والعاطفة والعلاقات والمدن والأصدقاء، خصوصاً شقيقه إبراهيم. كان وفياً في الردود، وإن أتخمها بوجع الفاقد كثيراً من إنسان الأمس وبراءته. هنا نسقط الدلاء في بئره الأولى: * أين ولدت، وماذا عن يوم مولدك. ما الذي تحتفظ به الذاكرة عن ذلك الزمن؟ - ولدتُ في قرية جنوبية تتكئ على خاصرة جبل أخضر في (رجال ألمع). تقول أمي حين فاجأها المخاض، كانت وحيدة، إنها هرولتْ إلى غرفتها، وراحت تصرخ من ألم الطلق، وحين سمعتها جارتها حضرت لمساعدتها، وكانت ولادة يسيرة، ولأنني كنت أول الأولاد الذكور بعد بنتين توفيت إحداهن باكراً، فقد فرحت كثيراً، وطلبت من»خالي» إطلاق زخات من الرصاص ابتهاجاً، كعادة أهل القرية. وتذكر أمي أن يوم مولدي كان يوماً مطيراً، سال على إثره وادي القرية، فجرف محاصيل الحقول. وبقدر فرحها بولادتي، فقد أحزنها ضياع محصول حقولها من الذرة. لم أكن شقياً * من هي سيدتك الأولى؟ - عشت سنواتي الأولى مع (أمي)، إذ لم أكن أرى والدي الذي يعمل بعيداً عنها إلا مرات قليلة، وقد ارتبطت بها لدرجة أنني لم أكن أفارقها، أرافقها في ذهابها لجلب الماء من بئر القرية، وتعهد الحقول الزراعية، والذهاب معها إلى سوق القبيلة الأسبوعي (الربوع). وتذكر أنني لم أكن شقياً، وحين كبرت قليلاً كلفت برعي صغار أغنامنا، ومازلت أذكر حزني على فراق أغنامي حين قرر الوالد نقلنا إلى المدينة. جَلَدٌ وطيبة وجَمال * من هي أمك، وما أثرها عليك؟ - أمي (شريفة البناوي)، وهي المرأة الوحيدة التي احتوتني، ومازالت تشكل لي رغم تقدمي في السن نبعاً من الحنان لن أجد مثله، وقد أهديت لها «مجموعتي القصصية الوحيدة»، كانت الأم والأب في آن، وكنت مفتوناً بجَلَدها، وطيبة قلبها، وجمال ملامحها، لدرجة أنني حين قررت الزواج رحت أبحث عن امرأة فيها شيء من ملامح أمي، وأظنني وفقت في ارتباطي بزوجتي (أم محمد)، ففيها كثير من سحر أمي، وجمالها، وطيبة قلبها. أبها أولاً * أي مدينةٍ أسرتك؟ - المدن عندي كالنساء الجميلات، في كل منهن ميزة تجذبك، وكانت «أبها» أول المدن التي اكتحلت عيناي برؤيتها، وحينها كانت لم تزل «قرية كبيرة» يطلق عليها العسيريون (أبها البهيّة ترد العجوز صبية)، ثم «بيشة الفيحاء»، التي أقمت فيها ومازلت، وقد أحببتها كثيراً، وكتبت عنها، ولي كتاب تحت الطبع «بيشة… كما عرفتها». وتبقى «جدة» أول المدن الكبرى التي عرفتها، ولي فيها ذكريات لا تنسى، بينما تظل القاهرة عروس الذاكرة، إذ كانت أول مدينة عربية أزورها وأنا في التاسعة عشرة من عمري، وفيها رأيت ما لم أره من قبل، الأهرامات، والمتاحف، والمكتبات، والمسارح، والسينما، لعلها ساهمت في تشكيل ذائقتي الأدبية والفنية، ومازلت مغرماً بها، وبحيويتها. وكنت أتمنى لو أنني عشت فيها في وقت مبكر خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم. أول كتاب * ما أول كتاب قرأته؟ - أول كتاب قرأته «جواهر الأدب» للهاشمي، ووجدت فيه بغيتي بما يحويه من معارف وعلوم كثيرة (من كل بحر قطرة)، ثم «النظرات»، و»العبرات» للمنفلوطي. وتعلقت في بداياتي كثيراً بقصص يوسف إدريس، ويحيى حقي، وبخاصة رائعته «قنديل أم هاشم». الفرزدق * متى بدأت علاقتك بالكتابة؟ - بدأت علاقتي بالكتابة في وقت مبكر، فقد كنت أبعث أخبار مدرستي للصحف، غير أن أول مقال كتبته أواخر الثمانينيات الهجرية في مجلة «المنهل»، وكان عن الفرزدق. أما أول قصة كتبتها، فقد كانت قصة «على شارعين» في «عكاظ»، أواخر التسعينيات الهجرية، ولم أضمها إلى مجموعتي القصصية. إبراهيم * من هو صديقك الأقرب؟ - شقيقي إبراهيم، رحمه الله، كان صديقي الأول، وكنا نتقاسم كل شيء، رغيف الخبز، وفراش النوم، وأحلام الطفولة، وبعد موته كونت صداقات مع أشخاص أعتز بهم وبمعرفتهم. جرح لا يندمل * هل أنت كائن بكّاء، ومتى كانت أول دمعة؟ - لا أذكر أول الدموع التي ذرفتها، لكنني بالتأكيد أذكر «أحرّ الدموع«التي ذرفتها، وكانت على شقيقي «إبراهيم»، الذي التهمته النيران بعد سقوط مصباح الكيروسين عليه (الأتريك)، وهو يذاكر دروسه في اختبارات الثانوية العامة، وحين كانت ألسنة اللهب تشتعل في جسده، لم أجد بُداً من الالتحام به لإنقاذه، لكنني مع الأسف لم أستطع حمايته في ذلك الزمن البعيد، رغم أن الحريق لم يرحمني فقد مكثت شهراً كاملاً أصارع الموت في العناية المركزة، ومن وقتها أشعر أن في القلب جرحاً لم يندمل، ولا أظنه سيندمل حتى ألقاه «رحمه الله». نقدٌ أول * حدّثني عن أول إصدار؟ - أول إصدار أدبي لي مجموعتي القصصية «من أوراق جماح السرية»، الذي طبعه النادي الأدبي في أبها 1410ه، ولقي احتفالاً من نقاد كثيرين، أذكر منهم الدكتور محمد صالح الشنطي، وعبدالرحمن شلش، ولمياء باعشن، والقادري، وكتب عنها الروائي الجميل أحمد الدويحي في جريدة «الرياض». الفيصل * من أول مسؤول قابلته، ولماذا؟ - أول مسؤول كبير أقابله وأجري معه حواراً صحفياً كان الأمير خالد الفيصل، أمير عسير وقتها، وكنت حينها ممثلاً لجريدة «الجزيرة» في عسير. قريتي * إلى أين يأخذك الحنين؟ - أحياناً يأخذني الحنين إلى قريتي التي هجرتها مبكراً، فأشعر بحنين جارف للعودة إليها، رغم أنها لم تعد هي نفسها القرية التي أعرفها، ولم يعد الناس هم الناس الذين أحببتهم وتقاسمت معهم رحيق الأماني العذاب، وأنين الهموم الصغيرة. فحيح الغرائز * ماذا يزعجك في كتَّاب اليوم؟ - يبدو أن توظيف «الجنس» في الرواية السعودية، والحديث عن «الغرف المغلقة»، والغوص في العوالم السفلية من «قاع المجتمع»، وبطريقة «فجّة» ومباشرة وقميئة، أفقد الرواية المحلية كثيراً من قيمتها الفنية، وشجع كل «من هب ودب» على كتابة الرواية. الرواية الحقة لا ترتهن لفحيح الغرائز، بل تطرح القضايا الكبرى، والأسئلة المحرضة على الفعل. لحظات السعادة * كيف تصف رحلة العمر؟ - في ظني أن عمر الإنسان هو في لحظات السعادة التي يعيشها، لا في عدد سنينه! ما أجمل أن ينسلخ المرء عن همومه التي تتوالد كالقطط الريفية؛ في إقامة دائمة على ضفاف هذا النهر، وكلما شعر بالضيق أبحر في زورق لا تنقصه الفتنة والإغواء. رموزنا الفكرية * ماذا يوجعك؟ - محزن، ومعيب، حين يتطاول بعض «العوام» وأنصاف المثقفين بالسب والشتم على رموز فكرية مضيئة في ساحتنا الثقافية التي تشكو من ندرة الرموز المضيئة. * هل أنت راضٍ عن العيش في زمن كهذا؟ - نحن، مع الأسف، لا نختار الزمن الذي نعيش فيه؛ لو كان الأمر في يدي لاخترت أن أعيش في العصر العباسي؛ أشعر أن هذا العصر يناسب تكويني وطبيعتي كإنسان. * من تهدد بالنسيان؟ - بعض الذين نفتقدهم في مسيرة الحياة من الصعب نسيانهم، لا لشيء إلا لأنهم لم يكونوا أناساً عابرين في الوجدان، بل كانوا شركاء في لحظات الفرح، والسعادة، أمثال هؤلاء لا يمكن نسيانهم بسهولة، بل يبدو نسيانهم فعلاً مستحيلاً، من يحتل حيّزاً من ذاكرتي لا يستحق النسيان، والعابرون عابرون كالكلام العابر.