يختزن الروائي أحمد الدويحي عالماً من روايات وحكايات، وتجربة حياة، وعلاقات إنسانية صافية مولِّدة للحوارات المفتوحة، وكلما اقتربت منه محاولاً انتهاك خصوصية البئر الأولى يردد مبتسماً «ارجع وراك» (مغصّنة)، إلا أن دموعاً تترقرق في عينيه، كون تلك الأيام أغنى ما يثري حياة الروائي، وكونه لا يقول في روايته كل شيء دفعة واحدة، برغم أن تمرير الذاتي وارد في معظم الأعمال، نجحنا في الوصول ل «الحِمَى»، واستنطقنا ذاكرة لا تشيخ في مجرَّة البئر الأولى. وهنا نص الحوار: - كنت الابن البكر لوالدين، رحمهما الله، كل منهما وحيد والديه، وقصة اقترانهما حكاية تروى، والغريب أني أصدرت عدداً من الروايات، وترددت أن أجرؤ على مس تلك الحكاية بشكلٍ أو بآخر، فأمي البنت الوحيدة لوالديها، وعاش أبي وحيداً في بلاده الشاسعة، وكان يرافق أخواله للحياة والعمل في مكة بسبب ظروف الحياة واليتم، وكانت أمه «جدتي» تمنح الأراضي لمن يزرعها في ما يعرف ب «الخبْر» في العرف الشعبي والقبلي في الجنوب، وتقتسم في نهاية الموسم حصتها من حصاد البلاد، وتوالي أكياس الحب ليوم موعود، ويبدو أنها كانت تبيع الفائض على الراغبين في الشراء، وتجعل من باقي أكياس الحب صندوقاً لمدخراتها، وكأن القدر يرسم شيئاً ليس للبشر دور فيه، فقد اشترى جدي لأمي أحد تلك الأكياس من الحبوب، فوجد في داخلها جنيهات من الذهب والفضة، وحينما أراد جدي أن يعيد الأمانة لصاحبتها، قالت له جدتي عبارتها التي ذهبت مضرباً للمثل بين الناس «الله كتب ذلك في سمائه فاطمة لسعيد»، وكان ذلك، وأصبح واقعاً معاشاً، وبأن تكون الأمانة مهراً لرأس العروس، وجئت إلى الحياة، ووجدت تاريخ مولدي منقوشاً على جدار البيت، ينتظرني ويسبق بشهور قليلة حدثاً مشهوداً وتاريخاً نادراً، إذ كانت الزيارة الأولى لولي العهد سعود بن عبدالعزيز إلى منطقة الباحة، ويذكر الناس أن ولي العهد حينذاك زار قريتنا، وزار كل القرى، ووزع عليهم عطاياه وهداياه من جنيهات ذهبية وغيرها، فكان عام 1372ه تاريخاً مشهوداً، وعام خير يذكر به الناس تاريخ مولدي. - ربما من حسن حظي أني وُلدت فوجدت سيدتين لهما مقام عالٍ من حيث المكانة الاجتماعية، تتنافسان على رعايتي والعناية بي، فجدتي لأمي عزة بنت عبدالله الكلي، ابنة شيخ القبيلة، وجدتي لأبي مليحة بنت عبدالله الفقيه من بيت السادة، وتحمل إرثاً تاريخياً وثقافياً، كون الإمامة والفرائض في البلاد والمال محصورة في أسرتها بين القرى المحيطة، وكان لجدتي عزة رحمها الله السبق والغلبة في احتضاني، والحياة في بيت أخوالي، ما شكَّل منعطفاً مهماً في حياتي، ساعدها على ذلك حضور شقيقي عبدالله «رديف» إلى الدنيا بعد نهاية السنة الأولى من مولدي، فكان لها رعاية بكر ابنتها الوحيدة، ولكنها رحلت مبكراً، وقيل لي أنها تحملت كثيراً من المعاناة بسببي، فكانت تحملني على كتفها مع قربة الماء، وتسهر الليل على رحى الطحين، وأنا معلق في جنبها، وكان رحيلها فاجعاً، كونها لم تطبع ملامحها في ذاكرتي، وهذا موجع، وكان لابد من الانتقال والحياة في كنف جدتي الأخرى مليحة عبدالله بنت الفقيه، وبدأت حياتي معها بواقعة أيضاً مشهودة، فتعرضت لهجوم غاشم وغادر من بقرتها، ونطحتني في وجهي تلك البقرة وكسرت أنفي، وكانت بقرتها عزيزة لديها وتعطى للناس من لبنها وسمنها، فنذرت جدتي حياتها، وجعلت ذلك اليوم آخر أيامها، وأذنت بذبحها وتوزيع لحمها بين الجماعة، صدقة لوجه الله، وفداء عني، جدتي مليحة عالم مليء بالأساطير، وبئر أولى من الحكايات لا تنضب، بالضرورة كان لها تأثير كبير في تشكيل خارطة رؤيتي للحياة والناس؛ شخصيتها القوية وخيالها الواسع منحني كثيراً من مفاتيح الحياة، كانت سيدة فذة بكل ما تعني الكلمة، كانت قليلة الكلام، وإذا تكلمت فلكلامها معنى، قد يكون موت جدي الذي ذهب للحج ولم يعد وتركه لها شابة وحيدة في عهدة طفلٍ وحيد صغير، ترك أثراً في تشكل شخصيتها، إذ رفضت الزواج بعد موته، وتفرغت لتربية وحيدها اليتيم، ولتكمل سيرتها معي. - لا أذكر، لكن هنالك حادثة ظريفة لا يمكن نسيانها، أتذكرها لتكون مجالاً للدعابة بيني وبين شقيقي عبدالله، وتُعنى بكيفية تشكل شخصية الطفل، وتأثير الأسرة في توجيه مسار حياته فعلاً، وعبدالله الذي ولد بعدي، وفي فمه ملعقة حب الأرض والبلاد، جاء ذات ليلة من الحقل يحمل فأسه، فوجدني جالساً في المجلس قرب النار، أتصفح كتاباً ربما كان «الزير سالم»، أو «ألف ليلة وليلة»، أو «سيرة بني هلال»، كنت استعرته حينذاك من مكتبة المدرسة، وكنا في السنوات الأولى من الدراسة الابتدائية، فافتعل معي خصاماً، وانتزع الكتاب مني، ورمى به في النار. - كان ذلك في التسعينيات الهجرية، فقد أرسلت نصاً قصصياً للأستاذ سباعي عثمان – رحمه الله -، وكان مشرفاً على الثقافة في صحيفة «عكاظ»، فنشر النص وكتب ملاحظة برغبته في تواصل القارئ الذي يعجب بنصه معه، فأرسلت له نصين قصصيين آخرين، وكان لتواصلي معه منعطف آخر في حياتي، إذ طلب مني أن أعمل معهم متعاوناً من مكتبهم في الرياض، وكان مديراً لتحرير «عكاظ»، وكانت المادة الصحفية الأولى ريبورتاجاً عن منطقة الباحة، بمناسبة زيارة ولي العهد، الملك فهد، لها في عام 1398ه، ومع الأسف، كادت تلك الخطوة، الولوج إلى بلاط صاحبة الجلالة، أن تقضي في داخلي على روح الأديب، إذ توقفت عن الكتابة القصصية بسببها لسنوات عدة، وضاعت مني نصوص قصصية في تلك المرحلة. - وجدتها في بغداد، عاصمة العباسيين، المختلفة جداً، وهي العاصمة الوحيدة التي تركت وشماً في الذاكرة، فقد كنت مكلفاً بالعمل في معرض بغداد الدولي بداية عام 1982م، وكانت حينها الحرب الإيرانية العراقية مشتعلة، وتبدو مظاهر الحرب جلية في المدينة، والسفر إليها مكلف وشاق، وكنت سعيداً بالمغامرة والسفر إليها باعتبارها عاصمة عربية وتاريخية بغض النظر عن ظروف الحرب، وكان الشأن الثقافي يشدني إلى عاصمة الرشيد، وهي نافذة الحداثة الشعرية العربية. ووقتها حدث شيء مهم يوم الافتتاح لم يكن في الحسبان، إذ كنت أرتب ركن التراث، وكان يحتوي على مشغولات نسائية فضية من منطقة الباحة، فوقفت امرأة وسألتني ما إذ كان من الممكن أن تحصل على شيء من هذه المشغولات، وحينما أجبتها بالنفي طبعاً، ردت عليَّ هازئة باللهجة الغامدية المحكية، وحينما رأت الدهشة مرتسمة على وجهي، بادرت وذكرت اسم عجوز في قريتنا تبيع السمن والعسل وكأنها توغل في المتاهة، ولما حاولت جاهداً أن أستفسر منها، كانت قد غابت بين حشود الناس في حفل الافتتاح، وحينما كانت الطائرات الأمريكية تقصف بغداد التاريخية في حرب الخليج الثانية، تفجرت في مخيلتي تلك الأسئلة المؤجلة، وتذكرت تلك المرأة المدهشة، فكتبت فصولاً عن تلك الأيام في بغداد، حوتها روايتي «ثلاثية المكتوب مرة أخرى»، والعجيب أن الصديق الروائي محمود تراوري هو الوحيد من قراء الرواية من انتبه بذكاء إلى تلك الأسئلة، واتصل بي يسألني عنها، ووضع مسارات متعددة معي للنص قبل نهايته في هذه الجزئية بالذات، وعبارة «المدن كالنساء» تركتها في إحدى رواياتي، ومضيت تنهب ذاكرتي الخائنة محطات السفر المتنوعة والبعيدة. - أنا بكَّاءٌ دائماً، ودموعي ليست عصية، وبالذات في هذه المرحلة من العمر، فقد يبكيني مشهد فرائحي، وقد تبكيني كلمة، ولست أذكر متى بكيت أول مرة، ولكنني كنت أقوى مما أنا عليه الآن، وخصوصاً بعدما تعرضت لكثير من ابتلاءات الحياة، فقد أصبح البكاء يريحني، ويغسل قلبي باستمرار.