أفضل طريقة -في ظني- لتغيير الواقع هي أن نصطلح معه أولاً، ونقبله كما هو ونحن نطمح في تحسينه، غير أن من ضلالات التصور أن نتسول بالمعاداة لتحسين ما نظنه سيئاً، أو لتغيير ما نظنه باطلاً أو فاسداً أو خلاف الأحسن. هذه فكرة التصحيح بالفوضى وهي مخادعة عدوانية، ومآلاتها أشد فتكاً بالواقع، فضلاً عن تحسينه. إنها فكرة قهر وإملاء وهي غير إيجابية. إذن فنحن أمام طريقين اثنين: أن نصطلح لنغير أو أن نعادي لنغير، والذي نلاحظه أن طريق المعاداة والمنابذة والعنف والمحاداة، لا يكون مؤثراً وصحيحاً إلا في مقابلة الباطل المحض المحارب المستعصي المشوه للفطرة الإنسانية. هذا الذي يواجه بالمنابذة والمعاداة، ومع هذا فهو طريق له اشتراطات. لا ينبغي أن تكون منابذة عمياء قدر ما ينبغي أن تكون منابذة مستبصرة. إن أي منابذة عمياء هي مساوية بالنتيجة للواقع الذي تعده سيئاً وإضافة لسوئه، فهي ليست تصحيحاً ولا يمكن أن تكون سبيلاً إلى التصحيح بأي صورة من الصور. وفي العادة فإن العقل يقع في وهم كبير حين يظن أن بإمكانه تغيير الواقع بالمعاداة على سبيل أنها خياره الأول. إنها ليست من عمل العقل، أي منابذة أو معاداة حتى وهي في المستوى النظري أو العاطفي لا تخرج عن كونها رد فعل عاجزاً منهزماً غير مستبصر. هل يعني هذا: ألا نعادي الواقع أيا كانت صفته؟ بالطبع لا، غير أننا ينبغي أن نفرق بين المعاداة السلبية العاجزة أو المخربة والمعاداة التي تنزع إلى التصحيح بقوة العقل لا بقوة العداوة نفسها، قوة العداوة تعني العنف بالمعنى السلبي، وهي تعني التصحيح وإعادة صياغة الواقع بالمعنى المستبصر الإيجابي. هذه اشتراطات المنابذة التي أشرت إليها، ألا نحول رفضنا للواقع إلى فعل عاطفي. هذا يعني أننا نصدر عن تعصبات شخصية أو تعصبات رأي محض ونحن نفعل هذا، مع أن الواقع الذي قد يرفضه الناس لا يبلغ في الأغلب الأعم ما يمكن أن نعده باطلاً محضاً، غير أن التباسات إرادات الناس أو فهمهم قد توقع في بعض التعمية، فتوهم أنها تنابذ باطلاً محضاً وتريد استبداله بالواقع الذي تراه أفضل وأولى. لا يمكن أن ننظر إلى واقع متعين متعدد الصفة بهذه الطريقة. كل واقع فيه الصحيح الذي يمكن تخريبه وفيه الخطأ الذي يمكن تصحيحه، لكن أخطر ما في الأمر هو تهويل الخطأ والتقليل من قيمة الصحيح، وهو ما يحدث في الغالب لأن الناس -عادة- تغلب عليهم تخليطات فهمهم وأغراضهم وأهوائهم أيضاً، وهم بالتالي لا يتحرزون من احتمالات تخريب الصحيح وإن لم يبلغوا تصحيح الخطأ. العقل الإنساني أحياناً لا يفرق بين سطوة الواقع المتعين وتصوره للواقع الذي يأمله. إنه يهدم المسافة بينهما بتوصيفات نظرية. ولهذه الفكرة تتمة إن شاء الله.