يعد التاريخ من أهم المصادر التي يستقي علماء السياسة منه المادة العذرية التحليلية للأحداث والوقائع السياسية التي حصلت في الماضي لتساعدهم في تحليل الأحداث السياسية الحالية للخروج باستنتاجات عن مستقبلها. والتاريخ يعني من ضمن ما يعنيه، بأنه سرد زمني مرتب ومنظم لأحداث معينة فكأنه عبارة عن سلسلة تتكون من حلقات مرتبطة مع بعضها بعضا وممتدة بامتداد التاريخ نفسه وكل حلقة منها تعني حدثاً مرتبطاً بما قبله وما بعده من أحداث قد وقعت في الماضي. والتاريخ الأستاذ الكبير الذي يستحسن استدعاؤه لأخذ مشورته، قد قال يوماً حكمته بأنه يعيد نفسه وأن ماحصل في فترة زمنية معينة قد يحصل في فترة زمنية لاحقة إذا تشابهت وتماثلت البيئة الظرفية والسلوكية والمكانية. فمن أبرز تطبيقات تلك الحكمة التاريخية والمتعلقة بعلم السياسة هو أن الدول تصل في مرحلة تاريخية معينة لقمة توهجها ليبدأ من ذلك التوهج مرحلة السقوط وهو سقوط ليس كسقوط فيليكس بل سقوط تدريجي. ولقد أبدع فبرع «أب العلوم الاجتماعية» -هكذا يطلق عليه في الأدبيات الغربية ونحن الأجدر من يطلق عليه هذا اللقب- ابن خلدون العالم العربي المسلم في توضيح تطبيق التاريخ من خلال مراحل الدولة الثلاث الذي استند في المقام الأول فيه على مفهوم العصبية وخير ما يمثله المثل العربي الشهير «أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب». فالمرحلة الأولى، هي مرحلة الأجداد وهو الجيل المؤسس الذين تقوم الدولة على أكتافهم وهم لا ينعمون برغد العيش بل بمره وقساوته وخشونته فيصبرون فتنشأ الدولة القوية الفتية. ويأتي جيل الأبناء وهي المرحلة الثانية، ليحافظوا فيه على استقرار وقوة الدولة كهدف ويسعون جاهدين نحو تحقيقه ولا يحيدون عنه البتة. ثم تأتي المرحلة العمرية الثالثة، فتتجسد في جيل الأحفاد الذي يعيش حياة مخملية رغدة فلا يستطيع أبناء هذا الجيل مع هكذا حياة مترفة من أن يحافظوا على تماسك الدولة مما يؤدي في نهاية الأمر إلى سقوطها وظهور دولة ذات عصبية أخرى قوية تحل محلها وهكذا تستمر دورات الدول ككيانات متحركة غير ثابتة. إلا أن استمرار قوة الولاياتالمتحدةالأمريكية بالرغم من انتهاء مراحلها العمرية، جعلنا نراجع نظرية ابن خلدون كتطبيق لحكمة التاريخ. وبعيداً عن المثال العربي الذي لا يوجد له مكان من الإعراب بين الأدبيات السياسية – الاجتماعية الأمريكية، فإن أمريكا كدولة لم تسقط كباقي الإمبرطوريات والدول العظمى التي سبقتها بل إنه أبسط ما يمكن وصفه بها بأنها دولة في التاريخ غير عادية. ولكي تفهم سر بقاء أمريكا وقوتها، يجب أن تفهم مفهوم هندسة التاريخ الذي يقدمه لنا نعومي تشومسكي عالم السياسة المشهور في كتابه «النظام العالمي الجديد والقديم». فكيف مزج تشومسكى الهندسة بالتاريخ؟ فالهندسة كعلم يهتم بدراسة الأشكال الهندسية من حيث المساحة والحجم…إلخ، ويقدم لنا أشكاله التي من ضمنها شكل المنحنى الذي نستطيع من خلاله دراسة عمر الدولة عليه. حيث إن في المنحنى نقطة القمة (Peak) وهي النقطة التاريخية التي تصل الدولة فيها إلى مرحلة التوهج وهي أيضا النقطة التي تبدأ الدولة منها بالسقوط. من هنا جاءت فكرة المزج بين الهندسة والتاريخ، فالهندسة تقدم لنا أحد أشكالها، والتاريخ يقدم لنا حكمته. ولكثير من المراقبين، فلقد وصلت أمريكا لنقطة التوهج ولكن لم تسقط منها، بل تحاول إما أن تحافظ على مكتسباتها وبالتالي تصبح على نفس النقطة لفترة زمنية طويلة، وإما أن تخلق حكمة تاريخية جديدة بخلق شكل هندسي آخر للمنحنى باختراقها نقطة المنحنى صعوداً وليس هبوطاً. ويرجع تشومسكى تلك الحقيقة إلى أن أمريكا قد وظفت المراكز البحثية Think) Tanks) في محاولة لتغيير حكمة التاريخ. ويبرز أكثر ما يبرز من هذه المحاولات، كتابات هنتنجتون «صراع الحضارات» وفوكوياما «نهاية التاريخ» «Clash of Civilizations» و»The End of History». ويبدو أن محاولة أمريكا قد نجحت إلى الآن في تغيير حكمة التاريخ وهي محاولة جديرة بأن يصفق لها كل عالم سياسي لسبب بسيط وهو عدم الركون إلى النظريات لفترات زمنية طويلة والإيمان بها كحقائق. والمحاولة التاريخية الجريئة، لا شك تستند على احترام أمريكا للعلم والعلماء. فأمريكا لم تبخل يوماً على عالم أتى لها بأفكار خلاقة من شأنها رفع مكانتها في العالم بل مدته بالبيئة البحثية المتميزة وأعطته الحياة المريحة السهلة وفوق ذلك أجزلت له العطاء فملكته من المسكن أفضله ومن الرواتب أعلاها ومن التعامل أرقاه. فما كان من هؤلاء العلماء إلا أن أصبحوا خط دفاعها الأول، فهنيئاً لدولة قدرت العلم والعلماء.