مازال الحديث متصلاً عن الاستراتيجية الصحية لأنها تمثل الأرض والأفق للخدمة الصحية، ويمكن محاكمة الوضع الصحي بالرجوع إليها كمعيار، ومن هنا تكمن أهمية حراسة هذه الاستراتيجية، إذ أن الإطاحة بها أو عزلها عن التأثير في الواقع لتصبح حبراً على ورق سيضر كثيراً بمستقبل الخدمة الصحية ويعيد الحالة إلى مربعها الأول. هناك أربعة عوامل تسهم في حراسة/ إضاعة الاستراتيجية، وهي العنصر البشري ونظام الخدمة المدنية وحافز التطبيق والمركزية الإدارية. كتبت في المقال السابق عن منسوبي الوزارة العميقة، وهم عناصر بشرية تحمل سياقاً ورث كثيراً من سلبيات الأداء الحكومي، لذا كون مملكته الخاصة الممانعة للتغيير. عندما بدأ نظام العلاج بأجر والتأمين على غير السعوديين كان بعض هؤلاء يقلص من محتويات الملف الطبي ويتلفها حتى تنخفض تسعيرة علاج المريض، وكان بعض الأطباء ينسق لمعاينة المرضى ليلاً بعيداً عن عين الرقابة بالتعاون مع متعاطفين من المختبر والصيدلية لتجنيب المرضى دفع قيمة المعالجة، وعند تأمل هذه الصورة أميل إلى رؤيتها من زاوية طريقة تفكير لا فساد إداري مباشر، فهؤلاء يحيلون على الحكومة لتحمل العبء مثل أي موظف مسكون بهذا التفكير، ولم يخطر ببال أحدهم تحفيز العمل التطوعي الطبي مثلاً دون المساس بحقوق المؤسسة الحكومية. هذه الصورة تبدو متطرفة لمناهضة فكر (اقتصاديات الصحة) الذي أقرته الاستراتيجية، لكنها واقع يعكس أنماطاً أخرى لعزلة كثير عن أداء متطور، فمن النماذج الشائعة أيضاً سلوك الزملاء الماليين واستسلامهم لبيروقراطية باردة لا تنسجم مع حرارة الاحتياج في الواقع، وكذلك مثلاً سلوك موظفي المستودعات وانفصالهم عن الدور المنوط بهم لمواكبة العمل الميداني المرتبط بالمريض. هذه الفئات وغيرها لم تصلها رسالة الوزارة حتى اللحظة، ورغم الجهد المبذول للتدريب أثناء العمل فإن هذا التدريب الخالي من التأثير في الترقي الوظيفي يفقد قيمته وأثره، وهنا يقودني للعامل الثاني وهو نظام الخدمة المدنية وتطبيقه وما أورثه من مفاهيم إدارية جعلت الوظيفة ضماناً اجتماعياً مستحقاً بغض النظر عن الإنجاز، لذا فلنحافظ على أداء مهني صحي يليق بالمريض، فلابد من تغيير نظام الخدمة المدنية، أو أن تعتزله وزارة الصحة نهائياً وتحيل جميع موظفيها لنظام التشغيل الذاتي بعد تعديله، مع استحضار تجربة شركة الاتصالات السعودية للاستغناء عن فئات لن تخدم المرحلة بشراء باقي خدمتها، والتعويل على جيل جديد خالٍ من عيوب مزمنة، حتى مع سوء تأهيله، فيمكن محاكمته لنظام لن يسمح بغير الإنجاز أو المغادرة، أما مرحلة بين بين التي نعاني منها فإن ضررها لا يخفى. هنا أؤكد أن (الإنسان) هو محور المعاني التي قصدتها، وأن وضعه كجزء من نظام متكامل يضمن إنتاجية أكثر ومهنية أحسن هو المطلوب، أما حسن الظن بالطارئ الإنساني والدافع المؤقت فلن يعدو إدارة أزمة تتخلق في رحم الفشل من جديد. وللموضوع صلة للإجابة عن السؤال: لماذا لم يكن بدل التميز خادماً للاستراتيجية؟